لاحظ
العديد من الأصدقاء أنّني اخترت في الآونة الأخيرة الانزواء والابتعاد عن صخب
الغوغاء السّياسيّة والإعلاميّة التّونسيّة الّتي باتت تعجّ بالسّماسرة
والدّجّالين وناكثي العهود ليتسنّى لي حماية العقل والرّوح والجسد من شوائب
الانحدار والانحطاط، بنيت لنفسي سوارا من الكتب وانغمست في القراءة علّها تنتشلني
من الواقع القمئ إلى سماء الأفكار والمعرفة والعلم... حتّى اتّصل بي صديق عزيز
عليّ يطلب منّي قبول دعوة من شمس فم حول قضيّة البغدادي المحمودي، قبلت على مضض
احتراما لصديقي، كنت في الموعد واستعددت للّقاء بقلب يضجّ بالغضب ونفس تملّكها
العصاب من هول الدّمار الّذي طالنا على كلّ المستويات، ولكنّ أحدا لم يتّصل، شيء
ما أتى على ذلك الإلحاح ليعتذر مقدّم البرنامج نظرا لضيق الوقت...
لم
أكن أنوي حوارا أو جدالا مع من أعتبرهم سببا في انحطاطنا ولا أن أشارك في تصفية
حسابات سياسيّة ولا تصفية
حسابات سياسيّة ولا حملات انتخابيّة استباقيّة ولا يمكن أن أحسب على أيّ طرف
سياسيّ أو أيديولوجيّ لأنّني أبعد ما يكون عن النّظام القديم ولا أحمل عداء بافلوفيّا
لما يسمّى باطلا بالإسلام السّياسيّ لأنّني كنت طرفا في ائتلاف حاكم يشمل
"الإسلاميّين" (لا أعترف لحزب النّهضة بمرجعيّة إسلاميّة وهي فقط حزب
يمينيّ محافظ بالمفهوم الاقتصاديّ) ثمّ استقلت منه عندما حاد عن طريق 17 ديسمبر
وليس لأنّه حزب يدّعي "إسلاميّة ما". أنا اليوم أقف على نفس المسافة
منهما اعتبارا منّي أنّهما يمثّلان جناحي الثّورة المضادّة ولا يتنافسان إلّا على
اقتسام الكعكة وكيفيّة خداع الجماهير من أجل خيانة أهداف الثّورة.
وقد
يتساءل البعض عن أهمّيّة قضيّة البغدادي المحمودي وما سبب كلّ هذا الجدال حوله...
جوابي هو أنّه إن كانت بعض الأطراف السّياسيّة تتجادل في الأمر من باب تسجيل
المواقف والاستعداد المبكر للانتخابات فليس لديّ أدنى مغانم أو مطامع أجنيها وكلّ
ما سأقوله هو من باب المعاش والمبدئيّة لا غير:
عودة
على الحيثيّات: أوّلا دعوني أذكّر بحيثيّات ما صار يوم 24 جوان 2012 صباحا، كنت
أوّل من علم بالحادثة عبر صحفيّ قال لي أنّ الخبر تمّ تسريبه له من قبل شخص من حركة
النّهضة، حاولت مرارا وتكرارا الاتّصال برئيس الدّولة دون نتيجة، وقد كان خرج في
مروحيّة عسكريّة لزيارة بعض المناطق العسكريّة في الجنوب التّونسيّ وحتّى مدير
الأمن الرّئاسيّ كان عاجزا عن الاتّصال به الأمر الّذي أثار استغرابي. كيف يمكن
للقائد الأعلى للقوّات المسلّحة أن يكون في عزلة تامّة وأن يعجز مدير أمنه
الرّئاسيّ عن مهاتفته؟ ألا يملك جيشنا هاتفا مربوطا بالأقمار الصّناعيّة يستخدم في
مثل هذه الحالات في دول تحترم نفسها. ليست المسألة شخصيّة أو حزبيّة وإنّما يتملّكك
العصاب عندما ترى حجم الهوان والانحدار الّذي ينخر مؤسّساتنا إلى حدّ يفقدك الثّقة
في كلّ من حولك. ثمّ كانت الاستقالة يوم 28 جوان، أي أربعة أيّام بعد جريمة التّسليم،
استقالة أتت دفاعا عن مؤسّسة رئاسة الجمهوريّة ورفضا للاعتداء على الدّستور وقيم
الجمهوريّة وشرف الجيش الّذي لطّخ في التّراب نتيجة جبن وزير عدل وتواطؤ رئيس
أركان جيوش وخاصّة خاصّة انعدام المروءة والرّجولة لدى القائد الأعلى للقوّات
المسلّحة آنذاك أي رئيس الدّولة الّذي يتشدّق
اليوم بأنّه كان على وشك الاستقالة. إنّ العبرة في السّياسة بالنّتيجة والفعل
الملموس وسيذكر التّاريخ أنّه لم يستمع لصوت الشّرف والأنفة المنادي بالاستقالة أو
على الأقلّ إقالة وزير العدل وقائد أركان الجيش وانساق وراء من اشتروا الباطل
بالحقّ ابتغاء للسّلطة والكرسيّ والوجاهة... ثمّ يقول أنّه أنقذ البلد من أزمة
عميقة وأنقذ المسار الانتقاليّ من الانحراف، أقول هنا أنّه لم يكن يمثّل شيئا في
الانتقال المزعوم لأنّه لم يكن أكثر من ضمانة علمانيّة للإسلام السّياسيّ الّذي
كان بصدد مدّ جذور حكمه ليستبدله في أقرب فرصة بمن هو أقدر على لعب الدّور نفسه،
لقد كان مسلوب الصّلاحيّات والإرادة وكلّ ما كان يشغله هو الحفاظ على الكرسيّ. لم
يقدر على الدّفاع عن صلاحيّاته وحماية التّونسيّين في 9 أفريل وأحداث الحنشة
والعمران وسليانة وغيرها من تلك الأحداث الّتي كان عليه لعب الدّور المزعوم الّذي
تقمّصه كذبا وبهتانا. ثمّ
إنّ التّسليم في حدّ ذاته وبتلك الطّريقة المافيوزيّة (أذكّر بتصريحات وزير
الماليّة السّابق في حكومة التّرويكا الّذي تحدّث عن صفقة ب 100 مليون دولار وهي
معلومة وردت أيضا في ميديا بارت الفرنسيّة الّتي فضحت العديد من قضايا الفساد
السّياسيّة في فرنسا). من هنا أتت محاكمتي لأنّني اعتبرت ذلك جريمة خيانة دولة
مكتملة الأركان والأجدر اليوم أن يعرض على القضاء كلّ من اشترك في تلك الجريمة من
هرم الدّولة آنذاك إلى رئيس الحكومة إلى قائد أركان الجيش إلى وزير الدّفاع ووزير
العدل وكلّ
من ساهم في الجريمة بالتّسهيل أو التّمويل أو التّنظيم.
كلمة
في حكم الإعدام : كنت من الأوائل ممن عبّروا عن رفضهم القاطع للحكم الغبيّ الّذي
قضى بالإعدام لمنتمين لجماعة الإخوان المسلمين في مصر معتبرا حكم العسكر لا يختلف
عن حكم الإخوان غباء وجبروتا ليس لأنّها أحكام سياسيّة فقط بل لرفضي القاطع لحكم
الإعدام كعمل مناف للقيم الإنسانيّة الكونيّة الّتي شاركنا نحن كعرب ومسلمين في
نحتها طوال قرون بفضل فلاسفة وعلماء ومفكّرين هم جزء من النّتاج الكونيّ الّذين
استفاد منهم الغرب ورفضنا نحن إرثهم وفكرهم لنفضّل الفكر الظّلاميّ الّذي يتغذّى
من الفقر والجهل والتّهميش وهذا ليس موضوعنا، رفض الإعدام كحكم في قضايا سياسيّة
أو جنائيّة مسألة مبدئيّة لا تخضع للاعتبارات السّياسيّة مثل كثيرين من أولئك
الّذين تتذبذب مواقفهم كقيم البورصة بحسب العرض والطّلب السّياسيّ والحزبيّ والماليّ
والتّغيّرات الإقليميّة. أذكّر أيضا أنّ حمّادي الجّبالي صرّح في أوّل زيارة إلى
السّعوديّة بأنّ العلاقات السّعوديّة التّونسيّة أهمّ من بن علي، أي أنّ مسألة
المحاسبة وحقّ الشّعوب في محاسبة جلّاديها مسألة مصالح ذاتيّة وسياسيّة، كما لا
يخفى على أحد تهريب المحمودي أسبوعا قبل الانتخابات التّشريعيّة في ليبيا وبضغط من
المخابرات الفرنسيّة الّتي تسعى جاهدا إلى تصفية بنك معلومات القذّافي وأسرار
العلاقات الفرنسيّة اللّيبيّة في عهد القذّافي...
في
قانون الإرهاب والمصالحة "الماليّة": لا يمكن أن نفصل بين القانونين
لارتباطهما السّياقيّ والسّياسيّ. كثيرون هم الّذين ينتقدون قانون الإرهاب، وأنا
من بينهم لأسباب موضوعيّة تخصّ حماية الحرّيّات وضمان المحاكمة العادلة والرّفض
المبدئيّ الغير قابل للنّقاش لحكم الإعدام. ولكنّ المعضلة والسّؤال الّذي
يؤرّقني ويؤرّق العديد من التّونسيّين هو من سيحاسب من ومن سيحاكم من في
بلد ضاع فيه المعنى وتحالفت فيه الأضداد وفقدت فيه الكلمة والمواثيق والعهود كلّ
معنى؟ نعم فُقد المعنى وسرقت أنتلّجنسيا ما بعد 14 جانفي المفاهيم
الثّوريّة لتفرغها من مضامينها تماما كما فعل بن علي بمصطلحات التّغيير
والدّيمقراطيّة والحداثة والتّطوّر... وها أنّ الكلّ يستثمر اليوم الإرهاب، الّذي
أضرّ خاصّة بالمفقّرين ممّن يتصدّرون جبهات القتال في الجبال والحدود في صفوف
الحرس والجيش والشّرطة، ليستفيد منه الأثرياء إمّا بفرض قوانين معادية للحرّيّة أو
أخرى تفتح الباب على مصراعيه للتّهرّب والتّفصّي من المحاسبة والعقاب (مشروع
المصالحة الماليّة للمفسدين) على سلب أموال الشّعب لعقود تكريسا لظلم انتقاليّ بدل
عدالة انتقاليّة تفكّك منظومة الفساد بما يضمن عدم عودتها، بدل ذلك سيدفع الفقراء
والطّبقة المتوسّطة المتآكلة ثمن فساد كبار المجرمين ضمانا لاستقرار السّياسيّ
وديمومة حكم الائتلاف اليمينيّ الانتهازيّ. الطّرف الآخر الّذي يستغلّ الإرهاب
بطريقته هو ذلك الّذي كان يحكم ففتح الباب للغلاة والظّلاميّين والتّكفيريّين لضرب
الخصوم السّياسيّين أو للدّعوة إلى ما سمّي باطلا جهادا ليلقي بشبابنا في محرقة لا
ناقة له ولا جمل فيها لا لشيء إلّا لإرضاء أطماع ومطامح إقليميّة. ليس المشكل في
تفاصيل قانون الإرهاب إذا وإنّما في صانعيه ومشرّعيه ومنفّذيه. لا يمكن للفاسد أن
يقيم العدل الّذي هو شرط السّلم والعمران ويتطلّب الأمر شرعيّة أخلاقيّة ونفوذا
أدبيّا ليكون بمقدور الحاكم أن ينفذ أكثر القوانين تصلّبا وتقليصا للحرّيّات إذا
رأى فيها النّاس عدلا أو حتّى توزيعا عادلا للظّلم.
أيّوب
المسعودي
29
جويلية 2015