Designed by Freepik

jeudi 27 juin 2013

المقال الممنوع : في الذكرى 57 لتأسيس جيشنا الوطني

الحمد لله وحده،

المقال الممنوع : في الذكرى 57 لتأسيس جيشنا الوطني

24 جوان 2013







من المؤسف أن تتزامن الذكرى السابعة والخمسون لانبعاث الجيش الوطني التونسي مع مرور سنة على تهريب البغدادي المحمودي من الثكنة العسكرية بالعوينة ذات 24 جوان 2012، دون علم القائد الأعلى للقوات المسلحة...


سبعة وخمسون عاما مضت على بعث مؤسسة الجيش الوطني التونسي في 24 جوان 1956، أي بعد ثلاثة أشهر من التوقيع على اتفاق اعترفت فيه فرنسا بممارسة تونس لسيادتها في مجالات الخارجية والأمن والدفاع. ومع أن هذا الاستقلال المنقوص وما استتبعه من سياسات كرست تبعية سياسية واقتصادية وثقافية وعسكرية لم تلب تطلعات أجيال من مناضلي الحركة الوطنية ثم ثورة 17 ديسمبر التي لم تخمد نارها بعد، فإن تأسيس الجيش التونسي مثل ولا يزال محطة من أهم محطات بناء الدولة الوطنية الحديثة. ويمثل هذا اليوم مناسبة لكل التونسيين يعبرون فيه، كل بطريقته، عن عميق احترامهم لهذه المؤسسة التي ساهمت في بناء الدولة واعتزازهم بجنودها الذين نذروا أنفسهم في سبيل حماية راية الوطن والذود عن ترابه، أولئك الذين يرابطون في الحدود وفي العديد من مناطق الجمهورية لأداء واجبهم الوطني بكل تفان وانضباط.

            وإذا كانت المؤسسة العسكرية، كمؤسسة وطنية في خدمة الصالح العام، تحظى باحترام كل التونسيين دون استثناء، فإنه من الضروري الفصل بين هذه المؤسسة المُهابة والأشخاص المسيرين لها والذين يفترض أن يخضعوا كغيرهم للمساءلة والنقد بعيدا عن منطق المزايدة والتملق وتقديس الأشخاص. إن احترام المؤسسات لا يجب أن يمنع، من منطلق الوطنية والحرص على الدفاع عن دولة القانون والمؤسسات التي نصبو إلى تأسيسها، من وضع الإصبع على الداء وتحديد المسؤولين على ما اقتُرف، باسم المؤسسة العسكرية، في حق الوطن والتونسيين والمؤسسة ذاتها. وسأحاول في هذا المقال طرح عدد من التساؤلات في هذا الاتجاه:

            هل نعرف كل شيء عن دور الجيش قبل الثورة، أثناءها وبعدها؟

            معلوم أن الجيش الوطني اضطلع بدور مفصلي في العديد من اللحظات التي جابهت فيها تونس مخاطر أمنية أو كوارث طبيعية كالفيضانات وموجات البرد في المناطق المعزولة أو تنظيم استقبال اللاجئين الليبيين والأجانب في أعقاب الثورة الليبية وتأمين الحدود البرية والبحرية، وهو أمر لم يقصر الحكام الجدد في تثمينه وإبرازه... ولكن جزءا هاما من تاريخ هذه المؤسسة يراد له أن يُقبر وليست هناك إرادة سياسية لرفع الغطاء عن حقيقة تدخل الجيش في أحداث 1978 و1984، وبراكة الساحل في 1991، وقفصة 2008، وأحداث ثورة 17 ديسمبر المتواصلة، كيف هرب بن علي ذات 14 جانفي 2011 وتسنى له استعمال الفضاء الجوي الذي كان مغلقا وخاضعا للقيادة العليا للجيش الوطني... أليس من حقنا كشعب أن نلج إلى الحقيقة حتى نفهم أدوات الاستبداد ونفكك آلياته ونعرف كيف نقاومه ونمنع عودته؟ متى تنجلى الأكاذيب وتظهر الحقائق وتتحدد المسؤوليات ليتسنى لنا محاسبة الجناة بما فيهم من داخل المؤسسة العسكرية ممن أساؤوا وأفسدوا؟ هل يمكن أن نتحدث عن ثورة مع الإبقاء على مسؤولين في أعلى هرم القيادة العسكرية ممن تورطوا في تعذيب المتهمين في أحداث براكة الساحل أو قتل المتظاهرين في أحداث الخبز في 1984؟
        

القضاء العسكري: كيف يتبخر القناصة ويسجن الجرحى وينسى الشهداء؟

في آخر حديث لي مع أحد الأصدقاء من المحامين المتطوعين للدفاع عن عائلات الشهداء، عبر لي بنبرة لا تخفي خيبة وإحباطا، كيف تم استنزاف المحامين وإنهاك عائلات الشهداء، وجلهم من المفقرين والمعدمين،  بالترهيب تارة والابتزاز طورا من قبل القضاء العسكري في حين ما فتئت قائمة محاميي القتلة، أصحاب المال والنفوذ، تتعزز بأشرس المحامين وأكثرهم طمعا (وهم غير متطوعين طبعا) في تكريس صارخ للحيف وغياب العدالة بعد ثورة طرحت على رأس أولوياتها قضية العدالة؟
            أيُعقل أن يقوم القضاء العسكري، رغم كل الشكوك التي تحوم حول براءته من مقتل الشهداء وهوية القناصة وإمكانية انتمائهم للمؤسسة العسكرية، مقام الخصم والحكم في ذات الوقت؟ أيُعقل أن يُدان جريح الثورة جهاد مبروك من أجل "عدم تسوية الوضعية إزاء قانون الخدمة الوطنية" ويُهان جرحى الثورة بعد أن اعتدي عليهم ماديا ولفظيا في ما سمي مجازا "وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية" بينما يكافأ القتلة أو يسرحون أو يحكم عليهم بالسجن مع تأجيل التنفيذ؟ لماذا تبخر القناصة ولماذا حصر العقاب والحساب على عدد محدود من بينهم المخلوع والقيادات العليا بتهم المشاركة في القتل العمد؟ ألا يساهم هذا التعتيم في إخفاء المسؤوليات الحقيقية ومدى اتساعها ويطرح إمكانية امتدادها إلى مسؤولين على رأس مؤسستي الجيش والأمن؟

ما مدى حياد المؤسسة العسكرية؟

إن الهدف من جملة الأسئلة التي نطرحها هو الحرص على تحصين مؤسستنا العسكرية من الأيادي العابثة باستقلاليتها وولائها للوطن واحترامها لواجبها في حماية الدستور والنظام الجمهوري وشرعية السلطة السياسية المدنية المنتخبة والممثلة لإرادة الشعب لا غير وبعيدا عن أي أجندات سياسية داخلية كانت أو خارجية. ولابد في هذا الإطار من الإشارة إلى مسألتين أساسيتين تطرحان تساؤلات جدية حول مدى استقلالية المؤسسة العسكرية:
أولا، من المؤسف أن تتزامن الذكرى السابعة والخمسون لانبعاث الجيش الوطني التونسي مع مرور سنة على تهريب البغدادي المحمودي من الثكنة العسكرية بالعوينة ذات 24 جوان 2012، دون إعلام رئيس الجمهورية المؤقت والقائد الأعلى للقوات المسلحة كما نص على ذلك الدستور المؤقت المنظم للسلطات العمومية. مضى عام ولم نلج بعد إلى الحقيقة حول المسؤوليات، وقد جوبهت كل مطالبي المتكررة، التي قدمتها من أجل مكافحة كل من رشيد عمار وعبد الكريم الزبيدي ووزراء الداخلية والعدل والخارجية المباشرين زمن تهريب المحمودي، بالرفض. ذلك أنه كان لدى السلطة السياسية نية جلية للتعتيم على القضية وإخفاء الحقيقة حول من خطط وأمر ونفذ وخاصة من استفاد، سياسيا أو ماديا، من ذلك التهريب. وللتذكير، فقد صرح السيد حسين الديماسي، وزير المالية في تلك الفترة، بوجود صفقة مالية بالعديد من ملايين الدولارات. وقد رفض القضاء العسكري مطالبي الملحة في مكافحة السيد الديماسي أيضا. لقد كان من المفروض على القيادة العسكرية أن تحترم الدستور الصغير وأن لا تنساق وراء الأجندات السياسية وربما الصفقات المالية وأن تلتزم بالقانون والرجوع إلى القائد الأعلى للقوات المسلحة الذي كان رافضا للتسليم. من هذا المنطلق كان دفاعي عن الدستور ودولة القانون والمؤسسات وقد شكل تهريب البغدادي المحمودي في رأيي مؤشرا خطيرا على بداية تفكك الدولة وانحلال المؤسسات.
ثانيا، لم يعد يخفى على عاقل الدور الذي لعبته الولايات المتحدة الأمريكية وما تزال في توجيه مسار الثورات العربية أو تأجيجها أو إخمادها بحسب ما تمليه مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، وقد تبدى ذلك في التعامل بمكيالين مع الثورة في سوريا من جهة وفي البحرين من جهة أخرى على سبيل المثال. أما في تونس، فقد لعبت أمريكا سياسة التطويق السياسي باعتماد الضغط والترغيب ومرتكزة في ذلك على ورقة الاقتصاد والمساعدات المالية وتأمين القروض والدعم السياسي للإسلاميين مقابل إخضاع البلاد والعباد لإملاءات وأجندات إقليمية أمريكية-أطلسية-صهيونية. كما أن المراسلات الدبلوماسية التي سربها ويكيليكس تبين أنه منذ 2002، تاريخ تأسيس مبادرة الشراكة مع الشرق الأوسط MEPI، كان هناك علم أمريكي دؤوب، بالتنسيق مع السفارات الأمريكية في المنطقة وأجهزتها الاستخباراتية، على تنفيذ مخطط الشرق الأوسط الجديد الذي وضع منذ عقود قبل أن تعلن عنه وزيرة الخارجية الأمريكية رسميا نهاية 2003. وقد تبين من خلال إحدى هذه المراسلات تحت عنوان "تونس : استراتيجية الإصلاح الديمقراطي لدعم أجندة الحرية"، أن MEPI وتفرعاتها إنما تعمل على التربص بالأنظمة العربية القائمة آنذاك وترقب فرص تعويضها بأخرى تكون أكثر تلاءما مع مصالحها في المنطقة حتى وإن تطلب الأمر توخي استراتيجية الصدام مع النظام كما اقترح السفير الأمريكي W.J. Hudson في نفس الوثيقة.
            هذا التنسيق تطور بشكل صارخ في السنتين الأخيرتين مع ترفيع البيت الأبيض لحجم المساعدات المالية التي كانت مرصودة للجيش التونسي، فنجد مثلا أن هذه المساعدات، مرت بعد الثورة من 5 مليون دولار مبرمجة لسنة 2011 إلى 15 مليون دولار، كل ذلك بهدف تحسين قدرات الجيش التونسي في إطار برنامج إقليمي عام لم يعد خافيا على أحد وقوامه "القوة الذكية" ومحاربة الإرهاب ب"صفر ضحايا" في صفوف الجيش الأمريكي بالاعتماد على جيوش دول المنطقة ومساعدتها ماليا واستخباراتيا للقيام بالمهام اللازمة.
            وهنا يطرح السؤال حول مدى استقلالية قرارنا الوطني في تحديد ملامح سياساتنا في الأمن القومي والدفاع والتسلح وتطوير وسائلنا الاستخباراتية الذاتية... ما هو هامش تنسيقنا مع الجيوش المغاربية لتوحيد المنظومات الدفاعية بشكل يحقق التكامل والنجاعة؟ لماذا أصرت أمريكا مثلا على التفاوض مع مجلس التعاون الخليجي وفرضت التعامل مع الدول فرادى مع الحرص على بث الفتنة والشكوك بين العائلات الحاكمة للدفع إلى سباق للتسلح وشراء أسلحة ومنظومات دفاعية مختلفة لا تسمح بالتنسيق بين الدول أو حتى القيام بمناورات مشتركة؟ ثم ما سر الزيارات المتتالية لوزير الدفاع وقائد أركان الجيوش لقطر، هذه الدولة التي وضعت كل ثقلها المالي والإعلامي والسياسي لزعزعة المنطقة خدمة للمشروع الأمريكي - الأطلسي-الصهيوني؟ وكيف نقبل مشاركة تونس في في عملية  "Predatory Falcon 3" أو "الصقر المفترس 3"، بحوالي 200 عسكري تونسي جنبا إلى جنب مع أذربيجان، الدولة الطرف في منظومة الناتو والتي يتدرب تحت رايتها عسكريون صهاينة مشاركون في هذه المناورات وتحديدا في قاعدة العديد القطرية، تلك التي انطلقت منها غارات الناتو لتدمير العراق في 2003 وليبيا في 2011؟

              ما المخرج؟

            من الواضح أن الثورة لم تكتمل، فوجوه من النظام القديم خدموا الديكتاتورية والفساد، ما يزالون يتقلدون مناصب القرار الأولى في مؤسسات حساسة كالدفاع ويسيرون الدولة بشكل يخدم مصالحهم في التقاء مع مصالح الساسة الجدد أو في إطار صفقات مشتركة. ولا يمكن أن نتحدث عن ثورة قبل استعادة المؤسسة العسكرية التي نحبها من قبل الشعب لتكون مؤسسة جمهورية في خدمته وخدمة مصالح الوطن العليا، هذا لن يتم دون أن تطال المحاسبة والمساءلة مسيري المؤسسة العسكرية في عدة قضايا ومن أوكدها طريقة تسيير ما يسمى "حربا على الإرهاب" ووقف كل التتبعات والضغوط المسلطة ضد الجرحى وعائلات الشهداء وإحالة ملف الشهداء والجرحى على القضاء المدني مع تمكينه من الولوج إلى أرشيف الأمن الداخلي والجيش دون قيد أو شرط. أما في مسألة حياد المؤسسة العسكرية فلن يتحقق ذلك دون دسترة المؤسسة العسكرية كمؤسسة جمهورية تحيد عن السياسة، كما لا بد من دسترة مجلس أعلى للأمن القومي يعمل في استقلال عن السلطة السياسية على أن يعمل بالتنسيق معها ومع القوى السياسية والمدنية الوطنية بما يوفر إطارا للتوافق على كبرى المسائل التي تمس الأمن القومي لتونس بعيدا عن الحسابات السياسية والمزايدات.



بعض المصادر
- وثائق ويكيليكس
- القمة الخليجية: استمرار الهروب من استحقاقات التغيير، السفير العربي، 09 جانفي 2013

- Algérie : la France hors-jeu des grands contrats d'armements 18/04/2013, www.latribune.fr

mardi 4 juin 2013

على أبواب ذكرى النكسة : من الوطن السليب إلى الثورة المغدورة

على أبواب ذكرى النكسة
من الوطن السليب إلى الثورة المغدورة
أيوب المسعودي
01 جوان 2013


نشر في جريدة الشروق بتاريخ 03 جوان 2013





http://goo.gl/n9ZgB

سؤال راودني وأنا أتحسس الكلمات الأولى للحديث عن ذكرى نكسة حزيران/جوان 1967، ذلك الكابوس الذي مزق الأمة وأقض مضجع تاريخنا ووعينا العربي والإسلامي، لماذا تغلب الغرب، رغم تعدد لغاته وثقافاته، على ما تراكم من أحقاد وضغائن في أعقاب الحربين ليبني أحلافا واتحادات ومؤسسات عسكرية واقتصادية وسياسية عملاقة وفاعلة كالاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي والبرلمان الأوروبي، بينما تخلفنا نحن العرب والمسلمين وزدنا انحطاطا وانقساما، رغم وحدة اللغة والثقافة والتاريخ؟ فلا نحن حققنا حلم التقدم والديمقراطية والوحدة المنشودة، ولا نحن حافظنا على وحدة الأقطار والتعايش السلمي لشعوبها؟
وبعيدا عن منطق جلد الذات وما اعتاد عليه النظام العربي الرسمي وترسانته من إعلام رسمي وكتاب رسميين ومحللين رسميين من تشويه للحقائق وقصف للعقول وإحباط للعزائم وتوطين لثقافة الهزيمة دون استخلاص عقلاني للعبر والدروس لا من النكسة فقط وإنما من النكبة وجملة النكسات إلى تداعيات إدارة ما بعد حرب تشرين الأول/لأكتوبر 1973 والتي قال فيها السادات أنها "آخر الحروب ضد إسرائيل" ممهدا الطريق لسلسلة من الهزائم السياسية والخيانات من كامب ديفيد إلى سلطة الحكم الذاتي في رام الله وبدء تفكيك المقاومة.
سأحاول في هذا المقال أن أفسر :
  1. أن جملة هذه النكسات والإخفاقات العسكرية هي نتاج طبيعي لمقولات وسياسات النظام الرسمي العربي الذي تم استيلاده بعيد الحربين خدمة لمصالح الاستعمار وهي سياسات تجد اليوم تواصلها في أنظمة ما بعد الاستقلال وحتى تلك التي أتت بها الثورات العربية،
  2. أنه لا يمكن أن نتحدث عن النكسة في إطارها الزمني والمكاني الضيق بل وجب وضعها في السياق العام لعلاقة الأنظمة العربية بالاستعمار والأجندات الامبريالية التي أوجدت وكلاء محليين تواطؤوا في تفكيك الوطن العربي وتدمير العراق وليبيا وسوريا وإجهاض الثورات العربية.

في المقولات الانهزامية لبورقيبة والسادات
يوم 03 آذار/مارس 1965، أي قبل سنتين تقريبا من نكسة 1967، ومن أريحا، دعا بورقيبة إلى توخي سياسة المراحل تجاه العدو الصهيوني محذرا من سياسة "الكل أو لا شيء". ورغم مرور نصف قرن على هذا الخطاب الانهزامي، فقد ظلت مقولات بورقيبة عالقة بأذهان أولئك الذين يؤمنون باطلا بالتفاوض مع عدو لا يعترف بالتفاوض ويرون في كلام بورقيبة نموذجا للعقلانية والنظرة الاستشرافية. هؤلاء لم يستوعبوا دروس النكسات نقض العدو الصهيوني لكل الاتفاقيات والمعاهدات وفشل المفاوضات التي يعتبرها الصهاينة مجرد أداة لربح الوقت وحث وتيرة الاستيطان والانقضاض على القدس.
ومعلوم كم أن مثل هذه المقولات وغيرها من مواقف بعض القادة العرب الاستسلاميين قبل النكسة أسهمت في إحباط العزائم ومثلت طعنة في ظهر وطن يحاول لملمة جروحه وتوحيد صفوفه لبناء عقيدة عسكرية موحدة ومشروع وحدوي في وجه الاستعمار الغاشم، وهو خطاب خدم المشروع الصهيوني وأضعف خيار المقاومة في التصدي للعدو الصهيوني وحلفائه.
لم يتوقف بورقيبة عند هذا الحد، ففي تموز/جويلية 1973، تقدم بورقيبة بمبادرة جديدة تقضي بقبول التقسيم والاعتراف بالعدو الصهيوني على أساس الشرعية الدولية وطبقا للقرار 181 لسنة 1947 وإقامة دولة فلسطينية على أراضي ما يعرف ب"شرق الأردن"، أي فوق الأراضي الأردنية الحالية، وقد أتى ذلك في إعادة لاسطوانة "الوطن البديل" والذي يرمي إلى حسم القضية الفلسطينية على حساب الأرض العربية ولصالح العدو الصهيوني، وهو ما أدى إلى قرار الأردن قطع علاقاتها الديبلوماسية مع تونس.
من اللافت أن خطاب بورقيبة هذا تزامن مع تصريحات السادات بخصوص حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 والتي قال فيها أنها ستكون "آخر حرب ضد إسرائيل". تصريحات بورقيبة والسادات أتت لتعمق حالة التفكك والانشطار والعجز العربي وتزيد في تشويش الأذهان و إحباط العزائم، كما جاءت نتاجا لضغط أمريكي-بريطاني-صهيوني لتغيير وجهة الصراع من تحرير الأرض المغتصبة إلى مشروع وطن بديل كامتداد لحلول التقسيم التي دأبت عليها إدارة المستعمرات البريطانية والفرنسية.
إن هذا التواطؤ من أنظمة قطرية أنانية وانهزامية ومعادية للوحدة العربية لا يمكن أن يفهم خارج سياق موجات إعلان استقلال جول عربية تم فيها تنصيب أنظمة تابعة من قبل الغرب تضمن لهم استمرارية مصالحهم ومحاربة المشروع الوحدوي الرامي إلى تحقيق عزة الأمة العربية وكرامتها وسيادتها. وهو دور توارثته الأنظمة العربية الرجعية الخليجية المبنية على حكم العوائل وغيرها من الأنظمة العسكرية والبوليسية والإسلاموية التي أتت بها الثورات.

من الانهزامية إلى التواطؤ إلى التعاون
إنه لمن المخزي في تونس، وبعد ثورة 17 ديسمبر/كانون الثاني، أن تنص وثيقة "مخطط الياسمين" والتي أعدت في ظل حكومة السبسي، على تأسيس قرطاج وخطاب أريحا 1965 وتسكت على 20 آذار/مارس 1956. وللتذكير فإن مخطط الياسمين هو عبارة عن مشروع يفوض المسألة الاقتصادية التونسية لصندوق النقد الدولي لإعطائه الضوء الأخضر لتفكيك الاقتصاد الوطني، أو ما تبقى منه، والقبول بمشروع "إصلاح هيكلي" مقابل إغراق تونس في الديون، وهو مشروع تكفلت حكومة الترويكا العميلة بتنفيذه وتمريره عنوة في ظل الاغتيالات والأزمات الأمنية المصطنعة التي هزت تونس.
كما لا يمكن السكوت عما نشرته وكالة تونس إفريقيا للأنباء حول خبر إمضاء مذكرة تفاهم في المجال العسكر ي بين تونس وقطر يوم 20 كانون الأول/نوفمبر بالدوحة. ويأتي هذا التعاون في إطار زيارة قام بها كل من رشيد عمار وعبد الكريم الزبيدي إلى الدوحة بين 18 و 21 كانون الأول/نوفمبر حيث التأمت ندوة جمعت كبار الكوادر والإطارات العسكرية للبلدان المشاركة في عملية "Predatory Falcon 3" (الصقر المفترس 3)، والتي شاركت فيها تونس بحوالي 200 عسكري جنبا إلى جنب مع عسكريين من دول أوروبية وأخرى إسلامية من بينها تركيا، ولكن اللافت هو مشاركة تونس جنبا إلى جنب مع أذربيجان، الدولة الطرف في منظومة الناتو والتي يتدرب تحت رايتها عسكريون صهاينة مشاركون في هذه المناورات وتحديدا في قاعدة العديد القطرية، تلك التي انطلقت منها غارات الناتو على العراق في 2003 وليبيا في 2011.
وهكذا مررنا من الخذلان السياسي إلى التواطؤ والتحالف مع الصهيونية، ولعل حذف مناهضة الصهيونية من مسودة الدستور الرابعة (01 حزيران/جوان 2013) هو أخطر مؤشر على هوان الإرادة السياسية وعمالة الأنظمة العربية وعلى رأسها تلك التي أتت بها الثورات إلى سدة الحكم.
سياسة الغدر والخذلان والخيانة لم تقتصر على المستوى السياسي وإنما امتدت إلى مستوى التعاون العسكري كما بينت، وصولا إلى التنسيق الدبلوماسي والسياسي عندما طرد المرزوقي السفير السوري ومهدت دبلوماسيتنا للعدوان على سوريا عندما احتضنت أول مؤتمر لمن يسمون أنفسهم "أصدقاء سوريا" والذي تحول بعد ذلك إلى غطاء سياسي للعدوان على سوريا بمال وهابي قطري وسعودي ومرتزقة عرب وسلاح أمريكي أطلسي انطلاقا من تركيا والأردن.
وهكذا، مرة أخرى، يتحالف العرب ضد العرب بدعوة من أمريكا والناتو، خدمة لمصالح الغرب قصد تفتيت الأمة وتقسيمها وتشطيرها قبل الانقضاض على ثرواتها. إنها حرب تأتي في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية ولا تعدو أن تكون، من المنظور الغربي، غير سوق جديد يدعم به الغربيون صادراتهم من الأسلحة ويضمنون فيه فرصا جديدة للاستثمار في ما يسمى "مشاريع إعادة الإعمار". ولعل فشل توحيد المنظومات العسكرية لدول مجلس التعاون الخليجي منذ تأـسيسه (1981) واستشراء الفساد في صفقات الأسلحة التي تعقدها العائلات الخليجية الحاكمة منفردة مع أمريكا ودول غربية أخرى، كصفقات السموم واليمامة وغيرها، ورفض أمريكا التعامل مباشرة مع مجلس التعاون الخليجي مفضلة التفاوض مع كل دولة على حدة مع السهر على بث سموم الفتنة والشكوك والتوجس بين العائلات الحاكمة لدفعها إلى مزيد التسلح...
كل هذه العوامل مجتمعة، مع تراجع التعليم والمدرسة والجامعة وتخلف البحث العلمي والتصنيع تدل على أن سياسة المراحل التي نادى إليها بورقيبة بتعلة اختلال موازين القوى لم يكن لها أساس وأن النظام التونسي البوليسي، القديم منه والجديد، مثله مثل الأنظمة الرجعية كانت خاضعة لإملاءات الغرب التي دفعت إلى مزيد من القطرية والانقسام والتشرذم وهو ما يؤدي حتما إلى إضعاف الأمة وتجهيلها وتفقيرها.
ومن هنا يأتي الجواب عن السؤال المطروح في مفتتح المقال، وهو أن الغرب توحد وتجاوز خلافاته وحروبه الدينية واختلافاته اللغوية والثقافية لوعيه بضرورة التوحد كعامل قوة وبناء. الغرب توحد لأنه تعلم من الإخفاقات والتجارب وراكم المعارف والتكنولوجيا وكتب التاريخ ووضع المؤسسات والقوانين والاستراتيجيات للحفاظ على وتفوقه، أما نحن العرب فلم نتفق بعد على لون العلم ورؤية الهلال ونواقض الوضوء.