الحمد لله وحده،
المقال الممنوع : في الذكرى 57 لتأسيس جيشنا الوطني
24 جوان 2013
من المؤسف أن تتزامن الذكرى السابعة والخمسون لانبعاث الجيش الوطني التونسي مع مرور سنة على تهريب البغدادي المحمودي من الثكنة العسكرية بالعوينة ذات 24 جوان 2012، دون علم القائد الأعلى للقوات المسلحة...
سبعة
وخمسون عاما مضت على بعث مؤسسة الجيش الوطني التونسي في 24 جوان 1956، أي بعد
ثلاثة أشهر من التوقيع على
اتفاق اعترفت فيه فرنسا بممارسة تونس لسيادتها في مجالات الخارجية والأمن والدفاع.
ومع أن هذا الاستقلال المنقوص وما استتبعه من سياسات كرست تبعية سياسية واقتصادية
وثقافية وعسكرية لم تلب تطلعات أجيال من مناضلي الحركة الوطنية ثم ثورة 17 ديسمبر
التي لم تخمد نارها بعد، فإن تأسيس الجيش التونسي مثل ولا يزال محطة من أهم محطات
بناء الدولة الوطنية الحديثة. ويمثل هذا اليوم مناسبة لكل التونسيين يعبرون فيه،
كل بطريقته، عن عميق احترامهم لهذه المؤسسة التي ساهمت في بناء الدولة واعتزازهم بجنودها
الذين نذروا أنفسهم في سبيل حماية راية الوطن والذود عن ترابه، أولئك الذين
يرابطون في الحدود وفي العديد من مناطق الجمهورية لأداء واجبهم الوطني بكل تفان
وانضباط.
وإذا كانت المؤسسة العسكرية، كمؤسسة وطنية في خدمة الصالح
العام، تحظى باحترام كل التونسيين دون استثناء، فإنه من الضروري الفصل بين هذه
المؤسسة المُهابة والأشخاص المسيرين لها والذين يفترض أن يخضعوا كغيرهم للمساءلة
والنقد بعيدا عن منطق المزايدة والتملق وتقديس الأشخاص. إن احترام المؤسسات لا يجب
أن يمنع، من منطلق الوطنية والحرص على الدفاع عن دولة القانون والمؤسسات التي نصبو
إلى تأسيسها، من وضع الإصبع على الداء وتحديد المسؤولين على ما اقتُرف، باسم
المؤسسة العسكرية، في حق الوطن والتونسيين والمؤسسة ذاتها. وسأحاول في هذا المقال
طرح عدد من التساؤلات في هذا الاتجاه:
هل
نعرف كل شيء عن دور الجيش قبل الثورة، أثناءها وبعدها؟
معلوم أن الجيش الوطني اضطلع بدور
مفصلي في العديد من اللحظات التي جابهت فيها تونس مخاطر أمنية أو كوارث طبيعية
كالفيضانات وموجات البرد في المناطق المعزولة أو تنظيم استقبال اللاجئين الليبيين والأجانب
في أعقاب الثورة الليبية وتأمين الحدود البرية والبحرية، وهو أمر لم يقصر الحكام
الجدد في تثمينه وإبرازه... ولكن جزءا هاما من تاريخ هذه المؤسسة يراد له أن يُقبر
وليست هناك إرادة سياسية لرفع الغطاء عن حقيقة تدخل الجيش في أحداث 1978 و1984، وبراكة
الساحل في 1991، وقفصة 2008، وأحداث ثورة 17 ديسمبر المتواصلة، كيف هرب بن علي ذات
14 جانفي 2011 وتسنى له استعمال الفضاء الجوي الذي كان مغلقا وخاضعا للقيادة
العليا للجيش الوطني... أليس من حقنا كشعب أن نلج إلى الحقيقة حتى نفهم أدوات
الاستبداد ونفكك آلياته ونعرف كيف نقاومه ونمنع عودته؟ متى تنجلى الأكاذيب وتظهر
الحقائق وتتحدد المسؤوليات ليتسنى لنا محاسبة الجناة بما فيهم من داخل المؤسسة
العسكرية ممن أساؤوا وأفسدوا؟ هل يمكن أن نتحدث عن ثورة مع الإبقاء على مسؤولين في
أعلى هرم القيادة العسكرية ممن تورطوا في تعذيب المتهمين في أحداث براكة الساحل أو
قتل المتظاهرين في أحداث الخبز في 1984؟
القضاء العسكري: كيف يتبخر القناصة ويسجن الجرحى وينسى
الشهداء؟
في آخر حديث لي مع أحد الأصدقاء من المحامين المتطوعين
للدفاع عن عائلات الشهداء، عبر لي بنبرة لا تخفي خيبة وإحباطا، كيف تم استنزاف
المحامين وإنهاك عائلات الشهداء، وجلهم من المفقرين والمعدمين، بالترهيب تارة والابتزاز طورا من قبل القضاء
العسكري في حين ما فتئت قائمة محاميي القتلة، أصحاب المال والنفوذ، تتعزز بأشرس
المحامين وأكثرهم طمعا (وهم غير متطوعين طبعا) في تكريس صارخ للحيف وغياب العدالة
بعد ثورة طرحت على رأس أولوياتها قضية العدالة؟
أيُعقل
أن يقوم القضاء العسكري، رغم كل الشكوك التي تحوم حول براءته من مقتل الشهداء
وهوية القناصة وإمكانية انتمائهم للمؤسسة العسكرية، مقام الخصم والحكم في ذات
الوقت؟ أيُعقل أن يُدان جريح الثورة جهاد مبروك من أجل "عدم تسوية الوضعية إزاء قانون الخدمة
الوطنية" ويُهان جرحى الثورة بعد أن اعتدي عليهم ماديا ولفظيا في ما سمي
مجازا "وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية" بينما يكافأ القتلة أو
يسرحون أو يحكم عليهم بالسجن مع تأجيل التنفيذ؟ لماذا تبخر القناصة ولماذا حصر
العقاب والحساب على عدد محدود من بينهم المخلوع والقيادات العليا بتهم المشاركة في
القتل العمد؟ ألا يساهم هذا التعتيم في إخفاء المسؤوليات الحقيقية ومدى اتساعها ويطرح
إمكانية امتدادها إلى مسؤولين على رأس مؤسستي الجيش والأمن؟
ما
مدى حياد المؤسسة العسكرية؟
إن
الهدف من جملة الأسئلة التي نطرحها هو الحرص على تحصين مؤسستنا العسكرية من
الأيادي العابثة باستقلاليتها وولائها للوطن واحترامها لواجبها في حماية الدستور
والنظام الجمهوري وشرعية السلطة السياسية المدنية المنتخبة والممثلة لإرادة الشعب
لا غير وبعيدا عن أي أجندات سياسية داخلية كانت أو خارجية. ولابد في هذا الإطار من
الإشارة إلى مسألتين أساسيتين تطرحان تساؤلات جدية حول مدى استقلالية المؤسسة
العسكرية:
أولا،
من المؤسف أن تتزامن الذكرى
السابعة والخمسون لانبعاث الجيش الوطني التونسي مع مرور سنة على تهريب البغدادي
المحمودي من الثكنة العسكرية بالعوينة ذات 24 جوان 2012، دون إعلام رئيس الجمهورية
المؤقت والقائد الأعلى للقوات المسلحة كما نص على ذلك الدستور المؤقت المنظم
للسلطات العمومية. مضى عام ولم نلج بعد إلى الحقيقة حول المسؤوليات، وقد جوبهت كل
مطالبي المتكررة، التي قدمتها من أجل مكافحة كل من رشيد عمار وعبد الكريم الزبيدي
ووزراء الداخلية والعدل والخارجية المباشرين زمن تهريب المحمودي، بالرفض. ذلك أنه
كان لدى السلطة السياسية نية جلية للتعتيم على القضية وإخفاء الحقيقة حول من خطط
وأمر ونفذ وخاصة من استفاد، سياسيا أو ماديا، من ذلك التهريب. وللتذكير، فقد صرح
السيد حسين الديماسي، وزير المالية في تلك الفترة، بوجود صفقة مالية بالعديد من
ملايين الدولارات. وقد رفض القضاء العسكري مطالبي الملحة في مكافحة السيد الديماسي
أيضا. لقد كان من المفروض على القيادة العسكرية أن تحترم الدستور الصغير وأن لا
تنساق وراء الأجندات السياسية وربما الصفقات المالية وأن تلتزم بالقانون والرجوع
إلى القائد الأعلى للقوات المسلحة الذي كان رافضا للتسليم. من هذا المنطلق كان
دفاعي عن الدستور ودولة القانون والمؤسسات وقد شكل تهريب البغدادي المحمودي في
رأيي مؤشرا خطيرا على بداية تفكك الدولة وانحلال المؤسسات.
ثانيا، لم يعد يخفى على عاقل الدور الذي لعبته الولايات المتحدة الأمريكية
وما تزال في توجيه مسار الثورات العربية أو تأجيجها أو إخمادها بحسب ما تمليه
مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، وقد تبدى ذلك في التعامل بمكيالين مع الثورة في
سوريا من جهة وفي البحرين من جهة أخرى على سبيل المثال. أما في تونس، فقد لعبت
أمريكا سياسة التطويق السياسي باعتماد الضغط والترغيب ومرتكزة في ذلك على ورقة
الاقتصاد والمساعدات المالية وتأمين القروض والدعم السياسي للإسلاميين مقابل إخضاع
البلاد والعباد لإملاءات وأجندات إقليمية أمريكية-أطلسية-صهيونية. كما أن
المراسلات الدبلوماسية التي سربها ويكيليكس تبين أنه منذ 2002، تاريخ تأسيس مبادرة الشراكة مع الشرق الأوسط MEPI،
كان هناك علم أمريكي دؤوب، بالتنسيق مع السفارات
الأمريكية في المنطقة وأجهزتها الاستخباراتية، على تنفيذ مخطط الشرق الأوسط الجديد
الذي وضع منذ عقود قبل أن تعلن عنه وزيرة الخارجية الأمريكية رسميا نهاية 2003.
وقد تبين من خلال إحدى هذه المراسلات تحت عنوان "تونس : استراتيجية الإصلاح
الديمقراطي لدعم أجندة الحرية"، أن MEPI وتفرعاتها إنما تعمل على التربص
بالأنظمة العربية القائمة آنذاك وترقب فرص تعويضها بأخرى تكون أكثر تلاءما مع
مصالحها في المنطقة حتى وإن تطلب الأمر توخي استراتيجية الصدام مع النظام كما
اقترح السفير الأمريكي W.J. Hudson في نفس الوثيقة.
هذا التنسيق تطور بشكل صارخ في السنتين
الأخيرتين مع ترفيع البيت الأبيض لحجم المساعدات المالية التي كانت مرصودة للجيش
التونسي، فنجد مثلا أن هذه المساعدات، مرت بعد الثورة من 5 مليون دولار مبرمجة
لسنة 2011 إلى 15 مليون دولار، كل ذلك بهدف تحسين قدرات الجيش التونسي في إطار
برنامج إقليمي عام لم يعد خافيا على أحد وقوامه "القوة الذكية" ومحاربة
الإرهاب ب"صفر ضحايا" في صفوف الجيش الأمريكي بالاعتماد على جيوش دول
المنطقة ومساعدتها ماليا واستخباراتيا للقيام بالمهام اللازمة.
وهنا يطرح السؤال حول مدى استقلالية
قرارنا الوطني في تحديد ملامح سياساتنا في الأمن القومي والدفاع والتسلح وتطوير
وسائلنا الاستخباراتية الذاتية... ما هو هامش تنسيقنا مع الجيوش المغاربية لتوحيد
المنظومات الدفاعية بشكل يحقق التكامل والنجاعة؟ لماذا أصرت أمريكا مثلا على
التفاوض مع مجلس التعاون الخليجي وفرضت التعامل مع الدول فرادى مع الحرص على بث
الفتنة والشكوك بين العائلات الحاكمة للدفع إلى سباق للتسلح وشراء أسلحة ومنظومات
دفاعية مختلفة لا تسمح بالتنسيق بين الدول أو حتى القيام بمناورات مشتركة؟ ثم ما
سر الزيارات المتتالية لوزير الدفاع وقائد أركان الجيوش لقطر، هذه الدولة التي
وضعت كل ثقلها المالي والإعلامي والسياسي لزعزعة المنطقة خدمة للمشروع الأمريكي -
الأطلسي-الصهيوني؟ وكيف نقبل مشاركة تونس في في عملية "Predatory
Falcon 3" أو "الصقر المفترس 3"،
بحوالي 200 عسكري تونسي جنبا إلى جنب مع أذربيجان، الدولة الطرف في منظومة الناتو
والتي يتدرب تحت رايتها عسكريون صهاينة مشاركون في هذه المناورات وتحديدا في قاعدة
العديد القطرية، تلك التي انطلقت منها غارات الناتو لتدمير العراق في 2003 وليبيا
في 2011؟
ما
المخرج؟
من الواضح أن الثورة لم تكتمل، فوجوه
من النظام القديم خدموا الديكتاتورية والفساد، ما يزالون يتقلدون مناصب القرار
الأولى في مؤسسات حساسة كالدفاع ويسيرون الدولة بشكل يخدم مصالحهم في التقاء مع
مصالح الساسة الجدد أو في إطار صفقات مشتركة. ولا يمكن أن نتحدث عن ثورة قبل
استعادة المؤسسة العسكرية التي نحبها من قبل الشعب لتكون مؤسسة جمهورية في خدمته وخدمة
مصالح الوطن العليا، هذا لن يتم دون أن تطال المحاسبة والمساءلة مسيري المؤسسة
العسكرية في عدة قضايا ومن أوكدها طريقة تسيير ما يسمى "حربا على
الإرهاب" ووقف كل التتبعات والضغوط المسلطة ضد الجرحى وعائلات الشهداء وإحالة
ملف الشهداء والجرحى على القضاء المدني مع تمكينه من الولوج إلى أرشيف الأمن
الداخلي والجيش دون قيد أو شرط. أما في مسألة حياد المؤسسة العسكرية فلن يتحقق ذلك
دون دسترة المؤسسة العسكرية كمؤسسة جمهورية تحيد عن السياسة، كما لا بد من دسترة
مجلس أعلى للأمن القومي يعمل في استقلال عن السلطة السياسية على أن يعمل بالتنسيق
معها ومع القوى السياسية والمدنية الوطنية بما يوفر إطارا للتوافق على كبرى
المسائل التي تمس الأمن القومي لتونس بعيدا عن الحسابات السياسية والمزايدات.
بعض المصادر
- وثائق ويكيليكس
- القمة
الخليجية: استمرار الهروب من استحقاقات التغيير، السفير العربي، 09 جانفي 2013
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire