بين معجزة الثورة ومعجزة المؤتمر
حذاري من تسارع التاريخ
في معجزة الثورة التونسية
بالنظر إلى التاريخ، تميزت جل الثورات بالفوضوية والتعقيد في أحسن الحالات إن لم نقل بالدموية والفشل كما حصل في جل ثورات أمريكا اللاتينية مثلا التي أتت بأنظمة عسكرية مستبدة. إلا أن العنف الذي ميز الثورات في الماضي كأداة لتسريع خروج أنظمة قمعية مستبدة تأبى الحوار والتداول السلمي على السلطة لم يعد اليوم ضروريا. ذلك أن ظاهرة تسارع التاريخ، التي يتفق عليها علماء الإجتماع والمؤرخون والتي أسهم فيها التطور العظيم لتكنولوجيات المعلومات وخاصة دمقرطتها وفتحها أمام الشعوب، أضعفت الأنظمة الشمولية عندما أخرجت السيطرة على الإعلام من بين يدي السلطة الرسمية وعززت الثورات الشعبية السلمية. عندما نظيف إلى ذلك جبن نظام بلا أسس متينة ولا إمتداد شعبي وتراكم المعاناة التي عاشها الشعب التونسي على مدى أكثر من نصف قرن وتنامي الوعي ومستوى التعليم لدى الشباب، يمكن أن نفهم سلمية الثورة التونسية وسرعتها.
في معجزة المؤتمر
وإن كانت نتائج الإقتراع أبلغ تعبير عن إرادة الشعب ينبغي على مختلف القوى قبوله واحترامه، من واجب الأحزاب والنخب السياسية القيام بمجهود بيداغوجي لتفسير النجاحات أو الإخفاقات قصد محاولة تبديد الريبة والشكوك التي يمكن أن تبثها بعض القوى حول نجاح هذا أو إخفاق ذاك.
أستطيع الآن أن أخرج عن الصمت الإنتخابي وأقول أن المؤرخين والمحللين السياسيين سيتدارسون في السنوات المقبلة سر نجاح المؤتمر من أجل الجمهورية في الإنتخابات التأسيسية. إذ كيف لحزب كان يوصف بالأمس القريب من قبل أبواق النظام البائد وحتى بعض الفرقاء السياسيين الذين لم يتوانوا في إستعمال نفس العبارة في وصفهم للمؤتمر بأنه ظاهرة صوتية، أن يتحول إلى ثاني قوة سياسية في تونس بعد حركة النهضة؟ كيف يمكن لحزب وإن تأسس منذ عشر سنوات ظل يعمل في السرية تحت وطأة التعذيب والسجن والنفي والمضايقات المختلفة لسنوات، أن يتحول إلى حزب مؤهل للحكم في ظرف عشرة أشهر وكيف أمكن له التفوق على أحزاب نشطت زمن بن علي وتمتعت بالتمويل العمومي فأمكن لها بعث المكاتب والمقرات، وإن في ظروف صعبة، في مناطق شتى من الجمهورية منذ عهد المخلوع ؟ كيف نجح حزب في الحصول على مقاعد في جل الدوائر الإنتخابية داخل الجمهورية وخارجها بدون مال سياسي أو إشهار أو قنوات خاصة موالية؟
إنطلاقا من تجربتي من داخل الحزب، يرجع هذا النجاح أساسا إلى العوامل التالية:
1- النفوذ الأدبي والأخلاقي لقادة الحزب وعلى رأسهم الدكتور منصف المرزوقي الذي لا يختلف إثنان اليوم على صدقهم ونضالهم
2- ثبات المواقف ووضوح الرؤية : إذ أن المتابع للشأن التونسي عامة ولمواقف المؤتمر من أجل الجمهورية خاصة يرى جليا ثبات رجال ونساء المؤتمر في أعسر السنوات وأشدها فكيف لهم أن يحيدوا عن الحق بعد أن إنتصر الشعب وطرد الطاغية؟ لقد صدقت هذه الثورة مقولة المؤتمر أن نظام بن علي لا يَصلُح ولا يُصلَح وأن رؤية قيادات الحزب الواضحة منذ البداية في ضرورة الإطاحة بالنظام عبر المقاومة المدنية لم تكن محض دانكشوتية ولا جنون
3- معجزة المؤتمر الحقيقية تكمن في الدرس والرسالة البليغين الذين أرسلهما هذا الحزب إلى العالم أجمع ومضمونهما أن النفاق والمال السياسي والمداهنة ليسو حتميات أو ضروريات براغماتية في الممارسة السياسية كما كان سائدا في العقلية العربية. سبب نجاح المؤتمر هو ثقته في ذكاء الشعب عندما توجه إليه بالبرامج والتصورات مخاطبا فيه عقله لا غرائزه أو بطنه.
4- التعويل على الشباب والكفاءات الوطنية من داخل الحزب : لم تكن لدى الحزب النية ولا الرغبة ولا الإمكانيات المادية لشراء برامج سياسية جاهزة معلبة أو خدمات مستشارين في التواصل والتزييف وصناعة الزعماء... بل عول الحزب على الكفاءات الوطنية الشابة والمتطوعة والتي اشتغلت طوال أشهر من أجل إعداد برنامج الحزب
5- الخطاب المتزن فيما يخص موضوع الهوية وطرح المؤتمر الحاسم لمفهوم الدولة المدنية منذ البداية كضامن للحريات الجماعية والفردية ومكرس لعلوية القانون ومساواة المواطنين أمامه دون أي تمييز. هذا الحسم المبكر سمح للمؤتمر أن ينأى بنفسه عن تجاذبات عقيمة شغلت بعض القوى السياسية لفترة لينصرف هو إلى مناقشة أم القضايا من تطهير الأمن إلى إصلاح القضاء ومحاسبة قتلة الشهداء وتعويضهم...
تلك هي العوامل الموضوعية التي أسهمت في نجاح المؤتمر وظهوره لكثير من التونسيين كحزب وسطي يمكن أن يقود وفاقا وطنيا في مرحلة ما أحوجنا فيها إلى الوفاق مع ضمان تحقيق مطالب الثورة الأساسية. ولكن في نفس الوقت، علينا أن نعترف أن ظاهرة تسارع التاريخ أيضا ساهمت مباشرة في تسارع ظهور المؤتمر كقوة جديدة في ظرف قصير من الزمن لنفس الأسباب التي ذكرتها سابقا. إلا أن هذا العامل سيف ذو حدين على كل الأطراف السياسية التنبه إليه
حذاري
يقول الفيلسوف والسياسي إدمون بورك "الدولة التي لا تقدر على التغيير ليست قادرة على البقاء"
إن مسؤولية النخب السياسية، وسط النخوة الإنتخابية التي يعيشها التونسي في هذه اللحظة التاريخية، هو التريث والتفكر في كل الخيارات وأثرها على أرض الواقع على المدى القصير والبعيد وتغليب المصلحة العامة في كل الخطوات. إن ظهور المؤتمر كثاني قوة سياسية في البلاد وضرورة إيجاد توافق مع أطراف سياسية تختلف في البرامج والأولويات والرؤى يطرح تحديات جديدة . إذ أن ظاهرة تسارع التاريخ ساهمت بصفة غير مباشرة في نشأة عقلية جديدة مبنية على "الفورية" بدل "الثورية" أساسها الرغبة في قطف ثمار الثورة في أقرب وقت ممكن. فتسارع التاريخ والتغيرات يوهم الناس بأن التغيير ممكن في وقت وجيز وتخلق نوعا من الخلط بين التغير والتغيير!
فالتغير ظاهرة دائمة في أغلب الأحيان لا إرادية تأتي بفعل الزمن وغالبا ما يصعب إدراكه كتغير رطوبة الهواء مثلا وأما التغيير فهو فعل إرادي قائم على إدراك وإرادة وتدبر مسبق كتغيير نظام حكم أو منوال تنموي مثلا، والمهم هنا هو إدراك أن التغيير يتطلب فهما وتخطيطا وتدبرا وخاصة .... وقتا
خوفي هو أن يخلط تسارع التاريخ كل المفاهيم فيوهم الناس مثلا أنه بمجرد رحيل نظام مستبد فاسد واستبداله بآخر منتخب ذي مصداقية في وقت وجيز سيتمكن الحاكم الجديد من حل كل المشاكل في وقت وجيز وإلا فسيتم استبداله بآخر في وقت وجيز ... لندخل في دوامة من عدم الاستقرار اللامتناهي الذي لا يزيد الطين إلا بلة.
لهذه الأسباب أظن أنه من مسؤولية القوى السياسية الفاعلة اليوم التفكر في هذه الظاهرة وأرى أن مدة ثلاث سنوات لعمل المجلس التأسيسي التي بنى عليها المؤتمر من أجل الجمهورية
برنامجه ليست فترة اعتباطية بل جاءت نتاج تفكر في استحقاقات المرحلة وضرورة الخروج من الفترة التأسيسية بجمهورية جديدة ذات دستور ومؤسسات قوية تضمن حكم الأغلبية وحماية حق الأقلية في المعارضة ومنافسة الأغلبية على السلطة. وهنا تأتي مسؤولية الأقلية أيضا، إذ لا أرى من مصلحة للأقلية في إفشال عمل الأغلبية في المرحلة القادمة وإنما عليها أن تسعى لإنجاح العملية التأسيسية التي لن تقتصر على كتابة الدستور بل يجب أن تشمل إصلاح ما فسد من مؤسسات لتبني مؤسسات الجمهورية القادمة، تلك الجمهورية التي ستمكنها في المستقبل من العودة إلا السلطة إن ارتأى الشعب في ذلك مصلحة. وأولى بنفس تلك الأقلية أن لا تسعى إلا تغذية وهم "الفورية" بدل "الثورية" وأن تعمل جاهدا على إنجاح المشروع الوطني الذي نحن بصدد دخوله
أيوب المسعودي