Designed by Freepik

jeudi 9 octobre 2014

ثورات مع تأجيل التنفيذ - 1 - Révolutions en sursis



مثقفو البلاط



 "فهم يعادون الفلسفة ذبا عن كراسيهم المزورة التي نصبوها من غير استحقاق، بل للترؤس والتجارة بالدين وهم عدماء الدين، لأن من تجر شيئا باعه ومن باع شيئا لم يكن له..."
                                                                                                          من رسالة الكنديّ في الفلسفة الأولى

لا تجمع بين مثقفي البلاط روابط أيديولوجية أو حتى طبقية أو فكرية ، هذا إذا أمكن الحديث عن فكر عند بعضهم. فلسائل أن يسأل: ما الذي جمع تحت سقف قصر قرطاج رئيسا يعرف نفسه كعلماني أصيل نادى بالمساواة في الإرث بين المرأة والرّجل وصحفجيا طرابلسيا ومؤرِّخا رئيسا لمجمع بيت الحكمة المتحدّر من أرستقراطية دينية زيتونية ليدور بينهم حوار سريالي يفتقر لأدنى مقومات النقاش المبني على التناقض والجدلية والمحاججة؟ وما الذي جمع مثقفين يعرفون أنفسهم بالبورقيبيين أو التقدميين أو اليساريين أو الديمقراطيين جلّهم نظّر وبرّر القمع والاستبداد في ظل حكم بن علي... بشيخ هرم تنكر للبورقيبة عندما كانت محاصرة مشرّدة، أسّس للتعذيب ومَنهَجَه، لا يتوانى عن تكفير المعارضين له وإهانة المرأة وإبخاسها والتقليل من شأنها وإدارة حزبه كما تدار الضيعة الخاصة، ينصب ابنه قائدا للشياه، يعزلها ويجمعها أنى شاء ومتى شاء؟
كثيرون هم أولئك الذين جرفتهم المطامع والمطامح لترميهم على بلاط الحاكم متمسِّحين ملمِّعين مزيِّفين، أكاد أقول أن هذا الاصطفاف المصلحي أحدث انجرافا كاملا في صفوف المثقفين وصحّر الثّورة من كل قاعدة فكريّة مستقلّة قادرة على بلورة مضمون نقديّ يثوّر الوعي العامّ ويؤسس لعقليّة جدليّة. وقد عرفت تونس في الآونة الأخيرة انفجارا في عدد صحفجيي البلاط ومدوني البلاط وفناني البلاط ورجال أعمال البلاط...
تلاحظون أنني تجنبت وسأتجنب تسمية الأشخاص بأسمائهم، لا خوفا من أحد وإنما توقيا من كل شخصنة لأركز على الفكرة وسأتعمّد استخدام عبارة 'المؤرّخ' للإشارة إلى رئيس مجمع بيت الحكمة. إن ما يجعل، في رأيي، رئيس مجمع بيت الحكمة في تونس من أخطر المناصب هو كون هذا المنصب عبارة عن حارس للوعي الجمعيّ التّونسيّ ممّا يحتّم اختيار شخصيّات مستقلّة لا تشوب فكرها ضغائن أو أحقاد تنال من عقلنة هذه المؤسّسة العتيدة. وسأتطرّق في هذا المقال لفكر رئيس مجمع بيت الحكمة الذي نُصِّب في عهد حكومة الترويكا لأتعرّض إلى أفكاره، لا إلى شخصه الّذي أحترمه، محاولا تفكيك خطابه وتفسير سكوته في ذلك الحوار المسرحية الذي غاب فيه المفكّر ليحضر الأرستقراطيّ المهادن.

المؤرّخ
أوّلا، من المهمّ فهم المرجعيّة الاجتماعيّة والثّقافيّة التي ينطلق منها الرّجل، فلا يمكن أن يخلو فكر من تأثيرات الوسط الاجتماعيّ والثّقافيّ للمفكّر. فهو متحدّر من عائلة 'بَلدِيّة' (من العائلات 'الكبرى' في العاصمة – على أنّني أمقت هذه المصطلحات)، وهو وسط أرستقراطيّ دينيّ (ولا يعني ذلك ضرورة متديّن) زيتونيّ التّربية والتعليم. ولا داعي للتّذكير بالنّفوذ الواسع الّذي تمتّعت به هذه العائلات خاصّة في ظلّ حكم البايات، حيث تولّى أحد أقرباء المؤرّخ، الشيخ يوسف جعيط مثلا، الوزارة الكبرى في عهد محمد الناصر باي.
إجمالا، ليس صحيحا أن بورقيبة شطب أو أراد شطب الدين كما يتهمه بذلك المؤرّخ في 'أزمة الثّقافة الإسلاميّة' مثلا في نزعة تكفيرية واضحة سنفصلها لاحقا. في رأيي، ما فعله بورقيبة هو أنه أنقص من هيمنة الأرستقراطية الدينية التي كانت مهيمنة زمنذاك على الدولة والإدارة والقضاء (عبر القضاء الشّرعيّ) والاقتصاد (الأوقاف)... تلك الأرستقراطية التي تحالفت مع الزعيم بن يوسف ضد بورقيبة، سنجد نفس هذه الطبقة تقف إلى جانب كبار الملاكين ضد تجربة التعاضد وضد بورقيبة، أي ضد نفس ذلك المشروع الذي أطلقه عبد الناصر لإنهاء الإقطاع (للتذكير كان عبد الناصر العلمانيّ نموذجا عند بن يوسف). ولعل المؤرّخ، المتحدِّر مباشرة من الأرستقراطية الدينية، لم يستحسن أفول نجم تلك العائلات "البلدية" التي كانت تهيمن على مفاصل الدولة وفضل بورقيبة في ولوج أولئك 'الآفاقيين' مثلي (وهي عبارة كانت تستخدم للإشارة إلى المتعلمين من أبناء الداخل) إلى مراكز متقدمة في الدولة والقضاء. ولعلّ كثيرا من التّونسيّين يجهلون أنّ مهنة التّعليم في الزّيتونة مثلا كانت حكرا على أبناء هذه الأرستقراطيّة من عائلات بن مراد والنيفر وجعيّط وبن عاشور وغيرها... وأنّ 'الآفاقيّين'[1]، وإن تساووا في العلم والشّهادة العلميّة مع 'البلديّين'، كانوا محرومين من جلّ المناصب العليا في الدّولة. كما أنّ سياسة الحزب الواحد البورقيبيّة سرعان ما أفرزت هي أيضا أرستقراطيّة جديدة مرتبطة بالحركة الوطنيّة الّتاريخيّة الّتي استحوذت على السّلطة وكان السّاحل وظلّ قاعدتها السّياسيّة والاقتصاديّة يختار منه بورقيبة الوزراء والمسؤولين ويضخّه بالمال والاستثمارات في نزعة جهويّة مقيتة.
لديّ شخصيّا مآخذ عدّة على خيارات بورقيبة السّياسيّة والاقتصاديّة الّتي كرّست الاستبداد والحزب الواحد والرّأي الأوحد وفوارق جهويّة أعاقت ثلاثة أرباع الجمهوريّة واستنزفت الدّاخل التّونسيّ بدون مقابل ولكنّ موضوعيّة التّحليل وصرامة المنهج تحتّم علينا رفع العديد من الملابسات والمغالطات الّتي يستعملها مروّجوها كسلاح لتشويه خصوم سياسيّين يدّعون الانتساب للبورقيبيّة. ولعلّ من مكر التّاريخ أنّ خطاب بورقيبة الّذي تحدّث فيه عن الصّيام وضرورة اقتران العبادة بالعمل وترك التّخاذل والتّكاسل في هذا الشّهر الكريم وضرورة تطبيق القانون واحترام مواقيت العمل وعدم استخدام الدّين مطيّة للتّكاسل والتّواكل[2]، لا ترك الصّيام كما يدّعي البعض، كان مذيّلا بفتوى... الشّيخ المفتي محمّد العزيز جعيّط[3].

'الثّقافة العليا' التّكفيريّة[4]
بعد هذه البسطة حول المرجعيّة الاجتماعيّة والثّقافيّة للمؤرّخ، لنلقي نظرة تفكيكيّة على فكر المؤرّخ الّذي انفجر تناقضا وحيرة في كتابيه الفتنة وأزمة الثّقافة الإسلاميّة.
فأمّا بخصوص كتاب الفتنة، وحتّى لو اعترفنا للمؤرّخ بإبداعه الأدبيّ في هذا العمل القيّم والعظيم، فلا يمنعنا ذلك من وجهة نظر نقديّة لا تفسد للاحترام قضيّة أن نأتي على جملة من الشّوائب المنهجيّة والتّحليليّة الّتي لا تخلو من شحنات أيديولوجيّة جليلة.
لنقل أوّلا أنّ من يجيد قراءة كتاب الفتنة[5]، أي ذلك القارئ المتفطّن الّذي يدقّق في الهوامش وخاصّة تعليقات المؤرّخ على مختلف المصادر والتّحليلات سيلاحظ انحيازا أيديولوجيّا واضحا للإسلام السّياسيّ، في بعدها 'الأمويّ'، الّذي يرمز إليه دهاء معاوية وحسّه السّياسيّ [6] كما يقول المؤرّخ مقابل النّقاء الإسلاميّ والسّبق والصّحبة النّبويّة والصّلابة في الدّفاع عن الحقّ والعدل الّذي يرمز إليه سيّدنا عليّ. ويتّضح هذا الانحياز عندما نكشف حجم التّناقضات الّتي سيتسنّى لنا تبيينها من خلال كتاب الفتنة وحده.
أوّل تجلّ لهذا التّناقض يبرز في تحليل المؤرّخ لمسألة تراكم الثّروات[7] في عهد سيّدنا عثمان، ذلك أنّ الكاتب سيقدّم أدلّة على حجم هذا التّراكم وسيقرّ بأنّ عثمان قد أخذ لنفسه وذويه من بيت مال المسلمين... ولكنّه سيبخس من قيمة تحليلات أخرى اعتبرها مادّويّة اقتصادويّة (يقصد ماركسيّة) كما سيفعل ذلك في كتب أخرى يزدري فيها أعمال مفكّرين آخرين مثل حسين مروة ومحمّد عابد الجابري[8] الّذي أعتبره  شخصيّا من ألمع العقول العربيّة الّتي عرفها العالم العربيّ في العشرينيّة الأخيرة.
إنّ إبخاس المؤرّخ لأعمال علميّة صارمة ككتاب النّزعات المادّيّة في الفلسفة الإسلاميّة للشّهيد حسين مروة أو سلسلة أعمال الجابري عن العقل العربيّ إنّما ينبع عن إغراق في الإشراقيّة، وما يؤاخذ عليه المؤرّخ بصفة عامّة إغراقه في الحديث عن العاطفة الدينية فنجده يتحدث عن ورع القرٌاء، والعاطفة الدينية عند معاوية[9]....  ويعتبر الفتنة صراعا دينيا محضا ويسقط التحليلات الاقتصادية الماركسية التي يعتبرها اقتصادويّة... وكل هذا يخرج به أحيانا عن المنهج الصارم في التحليل الاجتماعي والسياسي للتاريخ الإسلامي.
كما أنّ هناك تناقضا بين اعتبار الصراع دينيا محضا من جهة وتقلّبات مواقف معاوية بالذّات: فهو مضى إلى الحرب باسم القرآن والقصاص وجيّش الشام وحرّضه ثم سيعود ليستدعي القرآن والدين عندما سيدعو إلى التحكيم، عندما سيكتشف فكافة القوى العسكريّة، بوضع المصاحف على أسنة الرماح. هنا سيدسّ المؤرّخ فكرة أن خيار السلم، هذه الفكرة "الكبيرة" كما يصفها المؤرّخ في الهوامش، قد تكون أتت من النابغة معاوية[10] ويدحض كلّ رواية مخالفة. كما أن هذا التناقض يشقّ جيش العراق، إذ يقرّ المؤرّخ نفسه أن السواد الأعظم من المحاربين إنما كانوا يحاربون باسم القبيلة والشرف والعرض على خلاف القادة المسيّسين. وسترفع الشعارات القبلية من قبيل "البقية البقية" عندما سيبلغ التقتيل والدمار في العرب كل مبلغ.
تناقض آخر سنجده عند القراء[11]، تلك الفئة المسيسة التي وعت بقوة القرآن كوسيلة لتجاوز السبق الإسلامي وعلاقات السلالة والصحبة النبوية، القرآن سيمثل بالنسبة إليهم أداة تأثير، أداة سياسية... التناقض سيحصل عند قبولهم التحكيم باسم القرآن ثم رفض الوثيقة باسم القرآن "وإن طائفتان من المسلمين اقتتلا...." معتبرين أن مواصلة القتال ضد فئة معاوية ("الفئة الباغية حسب الآية") واجب وسيؤسسون بذلك حزب الخوارج.
كما يشكك المؤرّخ في رواية أبي مخنف والتي تريد أن يكون علي جاء إلى الحروريين ليقنعهم بالرجوع قائلا لهم أنهم دفعوه لوقف المعارك باسم القرآن فما الذي جعلهم يخرجون عنه ويطالبون بمواصلة الحرب[12]. وفي موضع آخر يدحض المؤرّخ رواية لليعقوبي تدين معاوية بتسميم الأشتر[13] ويصف روايات اليعقوبي بالمتشيعة والرديئة...
وإجمالا هناك تصور خاص للدولة عند المؤرّخ الذي يبرّر سياسات عثمان المبنية على تولية أقاربه، إذ يرى أن الامبراطورية توسعت والصراعات تعقدت وبالتالي يستوجب ذلك سياسة خاصة من عثمان للاعتماد على السلالة وروابط الدم كشرط لتماسك الامبراطورية... هنا تناقض كبير بين ما يقر به على أنه تداخل بين الدين والسياسة من جهة (وهذه خاصية مرحلة الشيخين المبنية على الدين المحض والسابقة الإسلامية) وإقحام للدين في صراعات سياسية أو تبرير لسياسات لادينية ولا أخلاقية باسم إكراهات امبراطورية أساسها الدين. ألا نجد هنا تفسيرات لانفجارات القرنين الثالث والرابع الهجريين التي كانت نتيجة لتراكمات آثار إقطاع الأرستقراطية الدينية؟ ألا يمكن أن نستخلص أن أزمة الفتنة أتت لسببين:
-           بداية تراكم الثروة لدى الأرستقراطية الدينية مقابل غياب آليات مراقبة لتوزيع الثروة ومساءلة مع تعقيد لبنى الدولة الآخذة في التوسع،
-           نهاية عصر الوحي والصحبة المحض وبالتالي الحاجة إلى نظام حكم أكثر تشاركية ومدنية أو لنقل علمانية؟

إن كتاب الفتنة يدخل في إطار السعي الحثيث لزمرة من المثقفين إلى إعادة إحياء استغلال الدين في السياسة تحت مسمى الإسلام السّياسي (وكأن هناك إسلاما سياسيا وآخر لا) الّذي تكون فيه الغلبة للأدهى والأقدر على التّمكين لا الأكثر استقامة والأحسن أخلاقا... ولعلّ أفول نجم تلك الأرستقراطيّة الدّينيّة الّتي فقدت من نفوذها الكثير هي الّتي تفسّر هذه النّزعة الماضويّة الإشراقيّة.
وهناك عناد كبير في تصوير معاوية وأنصاره على أنهم كلهم صادقون ورعون لا تحركهم إلا المشاعر الدينية الخالصة. فعندما يتحدث عن العثمانية في مصر بقيادة مسلمة وابن حديج[14]، يعتمد المؤرّخ على رد القائدين على إغراءات معاوية التي احتوت تأكيدا على الاستقلالية والتجرد في الولاء لشخص عثمان. لا أظن أنه من دور المؤرخ تقييم ورع أو صدق  أشخاص تاريخيين وإنما دوره تحليل الأحداث التاريخية وخلفياتها وتداعياتها... أما الرسالة فتبقى ردا دبلوماسيا لحلفاء تربطهم مصالح ويحرص الأضعف فيهم على الإيهام بالاستقلالية حتى لا يبتلعه القوي.
في كل مرة ضعفت فيها الدولة ظهر تمرد على الخليفة (ردة ما بعد وفاة الرسول، تمرد الخوارج، ثورة\تمرد الخريت وناجية، ثورة الزّنج، ثورة البابكيّة...). إن الأساس الديني للدولة انتهى مع انقضاء عهد الصحابة الأوائل الذين رافقوا عصر النبي، عصر الوحي والدين الوحي، عصر بناء العقيدة التي كانت في حاجة لنواة دولة وشوكة تحميها وتقمع كل مرتد...
إلا أن هذه الدولة لم تتطور ولم تتفاعل مع تغيرات البنى الطبقية الجديدة في البصرة والكوفة واهتزاز صورة الخلافة خاصة في عهد عثمان ولم تلب البنى المتصلبة للدولة القائمة على كليانية سلطة الخليفة مع الحاجة إلى سلطة رقابة تحول دون تغول الخليفة وسلالته، هنا الفكرة الفارقة : تناقض رهيب بين سلطة كليانية مبنية على الديني وما يعنيه ذلك من سلطة مطلقة، كليانية وشمولية من جهة وحاجة السواد من المسلمين والعرب إلى الشورى وتقاسم الثّروة والاعتبار والإصلاح، إصلاح ما أفسدته خلافة يفترض فيها أنها متعالية تعالي الدين نفسه.

إنّ حالة زياد بن عبيدة[15] هي حالة أخرى من حالات التناقضات العديدة وآيات البعد المادّيّ السّياسيّ الجليّ الّذي كان يحرّك الصّراعات بعيدا عن نقاوة الدّين وصفائه. فبعد أن كان نصير علي في فارس سيصبح الرجل الأول في فارس قبل أن ينفصل عن الدولة الإسلامية بعد مقتل علي لينقلب إلى أحد أركان النظام الأموي[16] . كما أنّ المؤرّخ سيقرّ بحاجة المقاتلة إلى إمام يقودهم ويوحّدهم وخاصّة يضمن لهم التّعالي الديني لكل الحروب والمجازر التي يديرونها[17]، ولا ضير في أن يتبدل الإمام والبيعة ما دام الفيء متواصلا.
حديث المؤرّخ عن كل الفتوحات كحركة روحية حتى تكون الأرض لله[18] فيه سذاجة في أحسن الأحوال وتناقض جلي (خاصة بعد التناقضات والتقلبات السياسية التي يستعرضها الكاتب نفسه...).  هذا علاوة على أنه ليس من دور المؤرخ أن يعطي توصيفا روحانيا لحركة سياسية... الدليل على ذلك إقراره هو نفسه بأن الدولة الإسلامية أبقت البنى السياسية والاجتماعية على حالها في فارس (أوكلت إلى المرازبة دور جمع الضريبة) مع وجود محتشم لعمال الخليفة وجيش صغير مرابط في المدن الاستراتيجية لضرب أي محاولة للتمرد ورفض أداء الجزية والخراج. وسيفسّر حسين مروة[19] كيف أنّ الإبقاء على النّظام الإقطاعيّ سيفرز مثلا ثورة البابكيّة الّتي تلحّفت هي الأخرى برداء دينيّ...
إلّا أنّ النّزعة الماضويّة الإشراقيّة وحتّى التّكفيريّة ستظهر بوضوح أكثر في كتاب أزمة الثّقافة الإسلاميّة، والّذي أعتبره نسخة رديئة من كتاب تكوين العقل العربيّ للجابري. فمنذ الصفحة الأولى يعلن المؤرّخ موقفه من بورقيبة مثلا، فهو يعتبره، إلى جانب الزّعيم عبد الناصر وأتاتورك... زعماء أرادوا أن يشطبوا الإسلام بجرة قلم... وأن الدولة الوطنية التي أسسوها على أنقاض الامبراطورية العثمانية فشلت... وسيقرن المؤرّخ استبدادية الأنظمة العربيّة منذ نصف قرن باعتماد الأنظمة على المثال الشيوعي[20] في الحكم متناسيا في ذلك الأنظمة الدينية التي نجد لها أكثر من موطن في المجال العربي والإسلامي.
إنّنا هنا أمام أمر جلل، فنحن لا نتحدّث هنا عن شباب مهمّش مفقّر غرّر به عملاء محلّيون ليكفّروا ويقتلوا كلّ من يخالفهم، إنّنا نتحدث عن رئيس مجمع بيت الحكمة، إنّه رمز من رموز تلك 'الثّقافة العليا' الّتي يتحدّث عنها المؤرّخ. وسنجده
يعتبر محمّد بن عبد الوهاب مؤسّس الوهابيّة إصلاحيّا مجدّدا[21] جاء لينقي الدين من شوائب الخرافات... بل ويضعه في مقدمة سلسلة الإصلاحيين. من الغريب أيضا أن هذا المؤرّخ  يتحدث عن قادة 'الاستقلال' (لا أعتبر الاستقلال قد اكتمل) الوطني كعلمانيين "غير مؤمنين سرا أو جهرا"[22]، هكذا، وكأنه يشق على القلوب وهذا أمر خطير في رأيي... وسيذهب حتى إلى القول بأن المثقفين العلمانيين يمارسون التقية!!! أي أن السيد المؤرّخ يسمح لنفسه بتكفير الناس ويقدم العلمانيين ككفرة وهنا يكمن الخطر الأكبر...
وكما قفز الكاتب قفزا على العقلانية في الإسلام، فإن حديثه عن النزعة الإنسانية في الإسلام[23] كان سطحيا ومقترنا بحوادث وتأويلات منتقاة... وهنا في رأيي لا نحتاج إلى إثبات هذه النزعة الإنسانية، فديمومة هذا الدين وبقاؤه لألف وأربعمائة سنة كفيلان بنزعته الإنسانية وإلا لحاربته الإنسانية ولاندثر ككل المنظومات الشمولية التي تكرس الاستبداد واللاإنسانية. لقد توسع الإسلام تحديدا بسبب نزعته الإنسانية وعقيدته التوحيدية التي أكدت على مساواة كل البشر أمام الله الواحد، تلك العقيدة التي أتت لتؤكد إنسانية الإنسان وضعفه وتبعيته للخالق وحده دون غيره وبالتالي حريته.

إن العودة إلى الفقه والحديث لإثبات النزعة الإنسانية للإسلام تدخل مرة أخرى في المنطق السائد عند تلك الأرستقراطية الدينية التي تريد مركزة الدين وكل ما يتولد عنه حولهم... وهذا متناقض مع الميزة الأساسية والتي جعلت الإسلام في رأيي دينا اجتذب إليه الكثير من الناس في وقت قياسي، وهي غياب مؤسسة دينية تكون وصية على إيمان الناس وعلاقتهم بالخالق وحقوق الله... وتتوسل المغفرة للناس بمقابل.... إنها تلك السلاسة واليسر التي تفتح باب النور والإيمان أمام كل من نطق بالشهادتين إيمانا واحتسابا دون تعميد أو اختبار من قبل أناس آخرين...

الصحفجيّ
لا يملك الصّحفجيّ المؤهّلات الذّهنيّة والجسارة الفكريّة ليناقش ويجادل السّلطان ومثقّف السّلطان.
الرّئيس العلمانيّ
لن أطيل الحديث في الرّئيس لأنّه لم يعد يهمّ النّاس، لا يملك الرّئيس العلمانيّ أن يكون وفيّا لأفكاره العلمانيّة وقد بات يراهن على ثقافة الموت والجهل والتّكفير في خدمة أجندات البترودولار. إنّه يراهن على بقاء هذا الشّباب في حالة عوز مادّيّ وفكريّ ليكون تابعا له يجود عليه ببلاغته المنمّقة الكاذبة في المحافل ويذرف دموع التّماسيح على الأموات، إنّه يراهن على الفقر الّذي يقذف بأبناء بلدي إلى جحيم العراق وسوريا لأن الحاكم بأمره القطري والعثمانجي الأطلسيّ أراد ذلك. ولا عزاء في 'التقدميين' الّذين يراهنون على شق آخر من الرّجعيّة النّفطيّة الّتي هي أصل الدّاء وسبب البلاء الّذي حلّ بنا.

إنّ الخطر الكامن في الكتابات الّتي تناولناها هي محاولة إثارة صراعات الماضي السّحيق الّتي مزّقت الأمّة وشطّرتها مع كثير من الالتباس في المفاهيم والتّحليلات، ولعلّ الحملة المغوليّة الّتي تعيشها الأمّة اليوم بأياد محلّيّة تتغذّى تحديدا من هذا الالتباس وغياب الحسم في هذه القضايا. صحيح أنّها تجد أرضيّة خصبة في خذلان الثّورات وفشل حكومات 'الثّورات' في تحقيق العدل والانتصار للحقّ ومحاربة الفساد، ولكنّها تجد هنا أيضا، في أعمال هذه 'الثّقافة العليا' قاعدة فكرية تبرّر لها جرائمها. إنّ هذا الالتباس يلقي بظلاله على المجال السّياسيّ فيشوّه الرّؤية ويؤجّل القضايا الحارقة من حرب على الجهل والفقر وإعادة توزيع الثروة لصالح قضايا هويّات قاتلة. بل إنّ هذا الفكر، بحكم نظرة إشراقيّة بحتة، يقلّل من شأن الصّراع الطّبقيّ ويتولى الأرستقراطيّ الدّينيّ عندئذ دور المرشد الّذي يجرّم كلّ حراك اجتماعيّ يطالب بحقوق مادّيّة واقتصاديّة.

لقد أوكل المأمون مهمّة الإشراف على بيت الحكمة إلى الكنديّ الّذي أظهر استقلاليّة كبيرة عن أيديولوجيا الدّولة وجسارة كبيرة وقدرة على تجاوز انتمائه الطّبقيّ والأيديولوجيّ بالرّغم من كونه ابن والي الكوفة. لقد عرف هذا المفكّر كيف يشقّ فتحة هامّة أمام طريق استقلال الفلسفة العربيّة دون أن يخلو عمله من تأثيرات أفلاطونيّة وأرسطيّة على حدّ السّواء خرجت عن منهج التّوفيق الطّوباويّ ولو نسبيّا، فمتى تلد هذه الأمّة مفكّرين مجدّدين مستقلّين يخرجونها من القتامة والرّداءة ولا يتمسّحون على بلاط السّلطان مزيّفين محرّفين.


أيّوب المسعودي
09/10/2014




[1] تاريخ تونس، من عصور ما قبل التاريخ إلى الاستقلال – محمد الهادي الشريف
[2] موقع الأوان  - bit.ly/1yMXqBb
[3] المصدر السّابق
[4] أستعير هنا العبارة الّتي يحبّ المؤرّخ استعمالها في كتاب أزمة الثّقافة الإسلاميّة الّتي يفهم القارئ أنّ المؤرّخ ينسب نفسه إليها
[5] لاحظوا أنّ عنوان الكتاب الكامل هو : الفتنة، جدليّة الدّين والسياسة في الإسلام المبكر
[6] الفتنة، 229 – 230، يتحدث المؤرّخ عن معاوية كنابغة سياسيّة
[7]الفتنة،  68 - 74
[8] أزمة الثقافة الإسلاميّة، ص116. هناك استنقاص من عمل الجابري في الذي أعده من أعظم مفكري القرن العشرين والذي أسهم إسهاما ضخما في تفكيك بنية العقل العربي تفكيكا علميا فلسفيا لا أركيولوجيا  كما يريد المؤرّخ أن يصفه... هذا التفكيك (la déconstruction) يحتاج اليوم إلى عمل بناء جديد لا يهدم الماضي ولا يكون على أنقاضه وإنما يبقي على الأسس المتينة للصرح مع الوعي بعلل البناء وترميمها أو تجددها على أسس جددة. حديثه أيضا عن عمل حسين مروة الذي كتب "النزعات في الفلسفة الإسلامية" ووصفه بأنه تحليل ماركسي - مادوي، هكذا فيه كثير من الظلم لعمل عظيم أتى على الهزات والصراعات الاجتماعية ذات الخلفية الاقتصادية والطبقية التي عرفتها الخلافة الإسلامية... إنّ هذا الموقف ليس بالمفاجئ إذا ما رأينا موقف المؤرّخ من كل من سينسب خلفيات اجتماعية طبقية للفتنة الكبرى... وهو موقف نابع من نزعة إشراقية مبالغ فيه.
[9] الفتنة، 135 - 137
[10] الفتنة، 232
[11] الفتنة، 240 - 244
[12] الفتنة، 246
[13] الفتنة، 283 - 287
[14] الفتنة، 286 - 287
[15] الفتنة، 317 - 318
[16] الفتنة، 317
[17] المصدر السابق
[18] الفتنة، 319
[19] النّزعات المادّيّة في الثّقافة الإسلاميّة - ج 2 – ص 15
[20] أزمة الثقافة الإسلامية، 32
[21] أزمة الثقافة الإسلاميّة، ص 42، أيضا ص 69
[22] أزمة الثقافة الإسلاميّة، ص 42
[23] أزمة الثقافة الإسلاميّة، 49 - 54

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire