ونحن على مشارف الذكرى "الرسمية" التاسعة والخمسين للاستقلال في ظروف أقل ما يمكن أن نقول فيها أنها خاصة، من حقنا أن نتساءل: ماذا فعلنا باستقلالنا؟ ولعل السؤال الأكثر إلحاحا هو ماذا حقق الاستقلال من جملة الأحلام والآمال العظيمة التي حملها شهداء الحركة الوطنية، هؤلاء العظام الذين مهدوا لنا طريق الحرية المضرج بالدماء والذين يمكن أن نعتبرهم آباءنا المحررين.
لا أصدر عن نظرة تشاؤمية مؤامراتية عندما أقول أن الاستعمار الخارجي مضى ليحل محله استعمار داخلي. لقد تلا الإعلان عن الاستقلال صراع دام على السلطة والوجاهة والاعتراف بين أرستقراطيتين، أرستقراطية زيتونية "دينية" اصطدمت مصالحها الطبقية القديمة بسياسات دولة ما يسمى بالاستقلال وخياراتها في مجال حقوق المرأة والأحوال الشخصية ظاهريا والقضاء والتعليم المدنيين وتوزيع الامتيازات واقعيا وأرستقراطية حزبية سياسية جهوية ارتبطت أكثر بمؤتمر قصر هلال وإرادة جامحة في الاستئثار بتاريخ النضال التحرري الذي أعادت كتابته على قياسها وبما يلائم مصالحها السياسية والطبقية.
هكذا عاشت تونس انتكاسة أولى في المسار المفترض لدولة ما بعد 20 مارس، فبعد إعلان الاستقلال و"تتويجه" بالجلاء كرمز لعودة الأرض إلى أصحابها، وبعد خروج المستعمر الذي صادر السياسة في تونس لعقود طويلة، هاهي السياسة تُصادر من أقلية حزبية ستمضي في استئصال كل من يعارضها ويطالب بحقه في الرأي المخالف والمشاركة السياسية.
إن هذا الاغتصاب السياسي لدولة الاستقلال، والذي سيجد من ينظر له ويقويه ويدعمه من الخارج كما من الداخل، سيتمحور طوال ثلاثة عقود حول دولة اختُزلت في حزب واحد أوحد سيُختزل بدوره في شخص واحد لتتكرس بذلك دولة الفردانية والكليانية المبنية على الزبونية والفساد المعمم والممأسس الذي ما يزال ينخر الوطن إلى هذه الساعة. إنها الانتكاسة الثانية في مسار الاستقلال، وعنوان هذه الانتكاسة هو فشل بناء حزب الاستقلال الوطني الفعلي. ويمكن أن نقول أن بورقيبة، ولأسباب موضوعية منها موجة ظهور الدول الوطنية القطرية بتشجيع أمريكي غربي لكسر المد القومي الوحدوي والاشتراكي، وأسباب أخرى ذاتية كتضخم الأنا عند الرجل الذي نفخت أقلية سياسية طفيلية وانتهازية في عظمته وشأنه لتحقيق مآرب ذاتية، كل ذلك في رأيي حال دون أن تتجاوز تونس بورقيبة. وكأن الزعيم لم يرد لتونس أن تكبر أكثر مما أراده هو لها، وكأنه أراد لنفسه أن يحجب للأبد صورة شعب ووطن آخذين في التعاظم والتحرر رغم القيود.
الانتكاسة الثالثة لن تكون أكثر من نتيجة حتمية لسابقتها، إن تقليم دولة بورقيبة لمخالب المعارضة السياسية وتحجيم دور الصحافة والمجتمع المدني فتحا الباب للجنرال المنقذ وللانقلاب الطبي الذي لم تطلق فيه رصاصة واحدة والذي لم يقل فيه الشعب كلمته، تماماً كما لم يقلها بعيد الاستقلال عندما استأثر حزب الدستور وامتداداته الجهوية بالسلطة والثروة. لن يتغير شيء بعد إعلان 7 نوفمبر، ستتغير الأسماء وستبقى سياسات التسلط والفردانية مع بعض التحوير في الأدوات كاستقطاب فئة من اليساريين ضد الإسلاميين كما فعل بورقيبة بالإسلاميين ضد النقابيين وبعض اليساريين. ستتغير لغة الغرب التبريرية للنظم التسلطية، وإذا كان بورقيبة رجلا متسلطا تكفي ميولاته التنويرية لنيل رضا الغرب فإن بن علي سيمثل في نظرهم صدا منيعا ضد الإرهاب والتطرف وخاصة حارسا وفيا لمصالح الرأسمالية الدولية والمحلية المتطفلة أيضا ضد غضب الجماهير المفقرة والمنهوبة جنوب المتوسط. نفس ذلك الغرب بمؤسساته المالية المانحة التابعة لن يتوانى عن الدعم السياسي والإعلامي للاستبداد في نسختيه البورقيبية والبنعلية وصولا إلى ضخ القروض والهبات في الجسد الميت، جسد أنهكه فساد العائلات واللوبيات، منح وهبات لن تصرف في النهوض بالصحة والتعليم والخدمات العمومية وإنما لسد ما أمكن سده من ثغور الفساد البنكي والمالي وتسديد ما تراكم من ديون للدول والمؤسسات المانحة. وهكذا ستدوم الانتكاسة الثالثة لأكثر من عقدين ستستفحل فيهما البطالة والفقر والظلم والغبن الاجتماعي الذي سينفجر ذات 17 ديسمبر.
لن أغوص في خلفيات وأسرار وتداعيات ما سيحدث بين 17 ديسمبر 2010 و 14 جانفي 2011 وسأقول بكل تواضع أن قلة قليلة تملك أجزاء من الحقيقة وربما سيتطلب الأمر عقودا من الانتظاروعملا تأريخيا مضنيا بعيدا عن حمى الآني لتفكيك حقيقة ما صار في تلك الفترة القصيرة بأكثر موضوعية. سأكتفي هنا بالقول أن الشعب التونسي عاش انتكاسة رابعة عندما آلت الثورة في مرحلة أولى إلى الانتهازيين الذين خانوا الثورة ودماء الشهداء قبل أن تُسلّم إلى تحالف خصوم الأمس وورثة الأرستقراطيتين التين تحدثنا عنهما سالفا، وكأننا نعيش نوعا من التطبيع المتبادل الذي يرمي إلى ترويض الغضب الاجتماعي وتحجيم المد الثوري الذي عرف مراحل مد وجزر مختلفة منذ 17 ديسمبر. طبعا ستغلف كل أرستقراطية خطابها السياسي بغلاف أيديولوجي من قبيل الحداثة والديمقراطية والمدنية مقابل العروبة والإسلام والأصالة والتدين... وهي كلها شعارات بان للتونسيين زيفها بعد تشكيل حكومة تحالف اليمينين المحافظين (ونقصد هنا بالمحافظين في الشأن الاقتصادي) والذين اختلفا في كل شيء إلا في انتهاج تفكيك اقتصاد الدولة الوطنية الاجتماعية ومؤسساتها العمومية من تعليم وصحة وقطاعات حيوية كالمناجم والطاقة وغيرها من الثروات التي استلبت من الشعب.
ومن المهم الإشارة إلى تقاطعات ونقاط تشابه عديدة بين كل هذه المراحل والانتكاسات عموما:
- تقاطع الصراعات الداخلية مع أجندات خارجية دولية وإقليمية كالصراع البورقيبي اليوسفي الذي كانت تقف وراءه المخابرات الأمريكية والفرنسية من جهة والمصرية بوجه خاص والجزائرية والليبية بدرجة أقل من جهة أخرى، سنجد آثارا لنفس هذه الصراعات مع اختلاف طفيف في الجهات والحلفاء الداخليين في مراحل مختلفة ولا يخفى على أحد وقوف المحور القطرو-تركي-أمريكي وراء جماعة الإخوان المتأسلمين من جهة مقابل محور سعودو-إماراتو-فرنسي وراء نداء التجمع من جهة أخرى، كلّ ذلك ناتج عن الطّبيعة الرّخوة لدولة بنيت على الفردانية والزبونية لا على مؤسسات متماسكة ومتكاملة من أمن وجيش جمهوريين وصولا إلى مخابرات مركزية تعنى بضمان علويّة مسألة السيادة الوطنية واستقلال القرار الوطنيّ،
- هذه الاختراقات طالت كل المجالات بما فيها التربية والتعليم الذي عرف في مراحل مختلفة إما هيمنة للمنظمات الفرنكوفونية التي ما تزال ترى في تونس مجرد مستعمرة سابقة وجب إبقاؤها تحت الهيمنة الثقافية مقابل مساعدات وهبات تحت عنوان إصلاح المنظومة التربوية التي لم تعرف إصلاحا جديا منذ عقود أو اختراقات لمنظمات مشبوهة ممولة من دول خليجية رجعية لبث الفكر الظلامي المتخلف وقذف العقول الناشئة. وفي كل الحالات كان التسيير المركزي للمنظومة التربوية السمة الغالبة والطّاغية منذ الاستقلال مع رقابة "سياسية" محكمة للبرامج ومناهج التعليم لا تترك مجالا لإبداع المعلم أو تنمية الفكر النقدي لدى التلميذ وهو ما يحول دون تكريس الاستقلالية الفكرية التي هي أساس الحرية وأول حصن ضد الظلامية والفكر المتطرف،
- هذه الاختراقات طالت كل المجالات بما فيها التربية والتعليم الذي عرف في مراحل مختلفة إما هيمنة للمنظمات الفرنكوفونية التي ما تزال ترى في تونس مجرد مستعمرة سابقة وجب إبقاؤها تحت الهيمنة الثقافية مقابل مساعدات وهبات تحت عنوان إصلاح المنظومة التربوية التي لم تعرف إصلاحا جديا منذ عقود أو اختراقات لمنظمات مشبوهة ممولة من دول خليجية رجعية لبث الفكر الظلامي المتخلف وقذف العقول الناشئة. وفي كل الحالات كان التسيير المركزي للمنظومة التربوية السمة الغالبة والطّاغية منذ الاستقلال مع رقابة "سياسية" محكمة للبرامج ومناهج التعليم لا تترك مجالا لإبداع المعلم أو تنمية الفكر النقدي لدى التلميذ وهو ما يحول دون تكريس الاستقلالية الفكرية التي هي أساس الحرية وأول حصن ضد الظلامية والفكر المتطرف،
- تداخل المالي والسياسي الذي كان ركيزة من ركائز دولة الاستبداد والفساد والذي لا يزال ينخر المجال السياسي إلى هذه الساعة. ولعل التّأثير المتبادل للسّياسيّ والإعلاميّ ودور المال الفاسد في الاستثمار في الإعلامي للتّأثير على السّياسيّ وتوجيه الخيارات السّياسيّة لصالح أقلّيّة فاسدة غيّرت وجهة الثّورة لخدمة مصالحهم الذّاتيّة والفئويّة،
- غياب حزب برامجيّ ذي توجّه وطنيّ مستقلّ متوفّر على قاعدة جماهيريّة موحِّدة وكافية للحكم باستقلاليّة يستمدّ إرادته من إرادة الجماهير الّتي تصوّت لهويّة الحزب وبرامجه بعيدا عن تأثير الإعلام الفاسد والمال الفاسد الّذين شوّها مسار الدّيمقراطيّة في تونس والّذين صنعا في تونس أحزابا إعلاميّة لا برامج لها ولا قدرة لها على التّجميع والإدارة والتّسيير،
- ضعف النّظام السّياسيّ القديم منه والجديد، ولا نقصد بالنّظام هنا طبيعة توزيع السّلط بقدر ما نقصد وجود سلطة وسلطة مضادّة وتفعيل القوانين واحترام سلطة القضاء والرّقابة المدنيّة. إنّ هذا الضّعف والرّخاوة ميّز كلا النّظامين السّياسيّين أي لما سمّي بالجمهوريّة الأولى والثّانية، وهو جزء من طبيعة الدّولة الرّخوة الّذي أشرنا إليه في النّقطة الأولى. ذلك أنّ كلا النّظامين يكرّسان الزّبونيّة وتداخل الماليّ والسّياسيّ وبالتّالي الانقسامات وضعف السّلطة السّياسيّة ممّا يفتح الباب للاختراقات الدّاخليّة والخارجيّة والإرهاب أحد أوجه هذه الاختراقات. نحن هنا في أشدّ الحاجة إلى حزب سياسيّ وطنيّ قويّ ومتماسك يتعهّد بإصلاح النّظام السّياسيّ من أجل جمهوريّة ثالثة أكثر تماسكا وصلابة وتجذّرا فكريّا وشعبيّا ولن يتمّ ذلك إلّا بالتّوازي مع حرب بلا هوادة ضد المال السّياسيّ والإعلام الفاسد.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire