إلى شهداء ثورة 17 ديسمبر بتاجروين محمد الجبالي وشوقي محفوظي
إلى الشباب الموقوفين في الجريصة منذ 12 فيفري 2016 ياسين ورحومة وسامي وأيمن وشاكر ومهذب وصابر ومنتصر وأمير ولطفي ورشدي وعزوز، إلى الشباب المنتصر في الجريصة، إلى من ردوا لنا الاعتبار.
يطلّ السّجين من شباك الزّنزانة مستنشقا نفحات الحرّيّة الصّامدة العنيدة قائلا: هل من مخلص لكم من جحيم التوافق؟
وأنا أكتب هذا المقال، تعود بي الذّاكرة إلى "كُدْية بُو عِشَّة" حيث وُلدت ونحت الوعي أول المشاهد في مخيّلتي. مازلت أذكر ذاك الحيّ الشّعبيّ الّذي كنت ألعب الكرة في أزقّته حافي القدمين. في رمضان، كنت مع صغار الحيّ نطلّ من أعلى"الكدية" نرقب أفول الشّمس وصوت المدفع لنركض بين المنازل مردّدين "مغرب، مغرب، مغرب...." ولا نعود إلى الثّغور قبل أن نطمئنّ على إفطار كلّ الصّائمين. كبر الأطفال الّذين كانوا يركضون وتبخّرت معهم أحلامهم، عتّم "البوسار" الأفق والمستقبل وهوت الأحلام الورديّة والصّور الرّومنسيّة لطفولة متمرّدة لتستحيل تهميشا وتفقيرا وحيفا.
من لا يعرفون الجريصة لا يعرفون "البوسار"، إنّه المرادف الشّعبيّ لل"poussière"، غبار ينبعث من معمل الإسمنت بأمّ الكليل انجرّ عنه تشبّع الهواء بموادّ سامّة بدّلت ألوان النّبات والأعشاب وقضت على صحّة الألوف ممن قضوا جراء سرطان في الرئتين أو الحنجرة.
من لا يعرفون الجريصة لم يروا آلاف الشّاحنات تخرج يوميّا محمّلة بآلاف الأكياس من الإسمنت دون أن يلج شيء من الثّروة المكدّسة هناك في المركز والسّاحل إلى الجريصة الجريحة، هذه المعتمديّة الأكثر ثراء باطنيّا ومنجميّا وأكثرها فقرا وتهميشا.
من لا يعرف بلدية الجريصة لا يعرف أنّها من أقلّ البلديّات ملاءة (Solvabilité) وأكثرها تداينا؟ لقد اعتمد نظام بورقيبة سياسات جهويّة مقيتة حتّى في التّقسيم التّرابيّ والإداريّ قصد عزل مناطق بعينها وتهميشها. هل يعقل مثلا أنّ ولاية كالمنستير الّتي أحبّها ككلّ ولايات الجمهوريّة (مساحتها 1024 كم²) تعدّ 31 بلديّة بينما لا تعدّ ولاية الكاف الّتي تعادل مساحتها خمس مرّات مساحة ولاية المنستير (5081 كم²) سوى 12 بلديّة؟ أترك لكم مقارنة ما ترصده الدّولة بهكذا تقسيم من ميزانيّات ودعم للبلديّات وبالتّالي للولاية ككلّ. هذا ناهيك عن خلل خطير حتّى في نظامنا السّياسيّ والانتخابيّ الّذي يعطي أكثر مقاعد للولايات ذات الكثافة السّكّانيّة الأكبر دون الأخذ بعين الاعتبار ظواهر النّزوح الّتي صحّرت مجالات شاسعة من البلد ممّا يعمّق الحيف الاجتماعيّ والاقتصاديّ المتردّي.
من لا يعرف بلدية الجريصة لا يعرف أنّها تفتقر حتّى لمستشفى يليق بمرتبة الإنسان ويمكن أن يضطلع بحالات المعاناة الّتي يتسبّب فيها البوسار...
هذه هي الجريصة الجريحة، أخذ الاستعمار حديدها ودم أبنائها وعرقهم لتواصل دولة "الاستقلال" أخذ ثرواتها دون استثمار يذكر فيها. وعندما يخرج أبناؤها للمطالبة بنصيب من الخبز الذي منّت به عليهم يُسامون التّنكيل والقنابل المسيلة للدّموع والإيقافات العشوائيّة وكيل التّهم القروسطيّة الّتي تذكّرنا بعهد خلناه انقضى وولّى "تكوين وفاق"، "منع الجولان" وغيرها من المفردات التي ما أنزل الله بها من سلطان.
ولكن جحيم التوافق له حراسه وعبدته. ومن اللافت، لو عدنا إلى قضية أبناء ساقية سيدي يوسف الّتي كنت من بين أكثر المدافعين عنهم في شتاء 2012 عندما كان الصراع بين حلفاء اليوم محتدما، كيف أنّ نداء تونس، في موقف المعارض زمنذاك، كان حاضرا بقوّة للاستثمار السّياسيّ معتبرا القضيّة سياسيّة والإيقافات مظلمة وكيف كان الإعلام يقوم بعمله، وأنا لا ألومه هنا بل بالعكس، للتّنبيه من خطر عودة الاستبداد والانتكاس.... ولكنّنا نلومه اليوم جزءا كبيرا منه على فقدان شرفه وغياب الحياد والمبدئيّة والوقوف مع القويّ على حساب الضّعيف والمسكين والمظلوم.
لو تعلم يا إعلام أنّ عدنان وإيلين ووجد محرومون من أحضان أبيهم منذ 303 يوما؟ لو تعلم ما تقاسيه أمّهم بين عناء القفّة ومصاريف إعالة 3 أبناء في بلد صارت فيه الحياة جحيما أرضيّا للزّوّالي؟ ما الّذي فعلته مؤتمراتكم واجتماعاتكم وحواركم الوطنيّ وبلاتوهاتكم لهؤلاء الأطفال؟ أي دولة هذه التي تسجن من لم يمد يده ولم يسرق وإنما طالب بأن يكد ويعمل يرتزق بعرق جبينه؟ أي دولة هذه التي ترمي بأبنائها في مقتبل العمر وراء قضبان الجحيم بدل الإصاء والتحاور؟ أي دولة هذه التي توقف الشباب لأكثر من 11 شهرا دزن تحديد موعد للجلسة، أليسو بشرا لهم كرامتهم وحرمتهم وعائلاتهم وأبناؤهم؟ أي دولة هذه التي تزرع الشوك والأحقاد والكراهية؟ أي جحود هذا وأي تكبّر؟؟
أطلقوا سراح شباب الجريصة الجريحة، ارفعوا أيديكم عن ثروات الجهة، لأبناء الجريصة الحق في الاستفادة من ثروات الجريصة، من حقهم الارتزاق بعرق جبينهم فهم ليسو من عائلات المماليك والانكشاريين، لا قرابة لهم برئيس ولا وزير ولا مدير تنفيذي لحزب نافذ.
ألا تسمعون لهم؟ هل من مخلص لكم من جحيم التوافق؟
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire