أن يفرض الموت نوعا من التّواضع والتّرفّع عن التّهجّم على شخص هو في حكم العدم فذلك أمر اجتمعت عليه الإنسانيّة بحكم التّساوي أمام هذا الأمر الّذي لا يستثني أحدا، يمكن أن ننظر إلى ذلك كقيمة من قيم المروءة، وكلّ فعل لا يراعي ذلك قد يبدو عبثيّا ولا أخلاقيّا. من المهمّ هنا أن أؤكّد أنّ شخص الباجي قائد السبسي رحمه الله وألهم ذويه الصّبر والسّلوان ليس محور هذا المقال.
إنّ المعنيّ في هذا المقال هو تفكيك الحدث كما تناوله طيف واسع من الإعلام التّابع، والبرجوازيّة المتحكّمة من ورائه. وهو تناول تجاوز حدود المنطق ليدخل هو بدوره في عبثيّة من نوع آخر، عبثيّة محسوبة ومقصودة هدفها استغلال "قداسة" الموت لإعادة إنتاج المعنى والرّمز وفق سلّم قيم البرجوازيّة.
الشّوفينيّة
إذ حسب الخطاب السّائد، من المفروض على كلّ تونسيّ أن يكون فخورا بدولته الّتي وُفِّقت في اجتياز هذه المرحلة العصيبة، عليه أن يكون فخورا بنخبته (اقرأ برجوازيّته) الّتي لم تتناحر ولم تتقاتل كحال بعض الدّول الّتي غرقت في حروب أهليّة. وهكذا يكون على التّونسيّ أن يكتفي ببرجوازيّة عقلانيّة هي بمثابة عصارة ما اتُّفق على تسميته "الذّكاء التّونسيّ" مقابل القبليّة اللّيبيّة أو "العسكر" الجزائريّ أو الملكيّة الوراثيّة المغربيّة منها والخليجيّة... هكذا نكون استثناء بين الأمم.
إلّا أنّ الشّوفينيّة هي أقصر طريق نحو الانزواء والابتعاد عن طريق أنسنة الفكر والسّياسة، إنّها عندما توحّد ظرفيّا (كأس إفريقيا، جنازة رئيس، عمليّة إرهابيّة) ومناطقيّا (السّاحل - الدّاخل، المغرب-تونس والمشكلة مع الوداد البيضاوي) فإنّها سرعان ما تكون مولِّدة لأسوأ الأفكار الفاشستيّة والعنصريّة والّتي تحول دون التّقارب الّذي هو المصير الطّبيعيّ للعرب كشعب ذي لغة وروح ومصير واحد (وهو ما أظهره فوز الجزائر بالبطولة الإفريقيّة وفرح التّونسيّين والمغاربة على حدّ السّواء بذلك التّتويج).
الشّوفينيّة هي سلاح البرجوازيّة لتأليب العمّال المغاربة على الجزائريّين والتّونسيّين على اللّيبييّن والأفارقة تماما كما هو الحال الآن مع القوانين الفاشستيّة في لبنان ضدّ السّوريّين والفلسطينيّين.
رجل المحلة
ولأنّ البرجوازيّة، تلك الأقلّيّة المنظّمة والمُفَوَّهة، تدرك جيّدا حجم الرّهان وما يمكن أن تخسر مقابل الثّوريّين المتخاذلين والمنقسمين على أنفسهم، فإنّها كانت سبّاقة لتفرض مواصفات رجل المرحلة وفقا لمن تراه حصانها الرّابح الّذي سيتكفّل بمواصلة رعاية مصالحها.
هنا تدخل الصّورة والمشهديّة على الخطّ ومن ورائها غرف عمليّات تتقن فنّ التّلاعب بالمشاعر والجماهير. ولأنّ المشاعر، بما فيها الأكثر لا عقلانيّة، تتضخّم وتتعاظم داخل التّجمّعات (سيكولوجيا الحشود)، ولأنّ البثّ المباشر وقرب الصّورة وتطوّر وسائط التّواصل الاجتماعيّ دخلت على الخطّ لمزيد دفع هذه الظّاهرة، كان لزاما على البرجوازيّة أن تحوّل وجهة هذه الظّواهر والوسائل "الشّعبيّة" لصالحها.
هذه المشهديّة وقع توظيفها وتهيئة الظّروف لها قبل وبعد رحيل الرئيس. بداية عندما اجتمع رئيس الجمهوريّة الرّاحل بوزير الدّفاع في القصر الرّئاسيّ، ثمّ عند توثيق ما يشبه "توديع" الوزير لنعش الرّئيس داخل المستشفى العسكريّ في مسرحة لما يشبه "الوصيّة".
لم يغب على هؤلاء أيضا أنّ المؤسّسة العسكريّة، بحكم بعدها عن السّياسة والتّسييس، كانت ولازالت تحظى بثقة التّونسيّين، فكان أن استغلّوا نجاح المؤسّسة العسكريّة في تنظيم الجنازة لينسبوا ذلك إلى رصيد وزير الدّفاع. أو ليس هذا الوزير هو نفسه الّذي أساء لشرف المؤسّسة العسكريّة ذات 24 جوان 2012 عندما سمح بتسليم لاجئ سياسيّ إلى ليبيا دون علم قائده الأعلى للقوّات المسلّحة، ألا يعلم وهو وزير الدّفاع معنى "واجب ردّ الخبر" عند العسكريّين؟ كيف يمكن أن نثق في من تواطأ وأخفى تسليم لاجئ من داخل مطار عسكريّ تونسيّ على رئيسه؟ لماذا سكتت هذه البرجوازيّة المنافقة عن جريمة التّسليم تلك بينما كانت أشرس المهاجمين على المنصف المرزوقي، الرّئيس الضّعيف والعاجز الّذي خذل الثّورة والّذي لم يردّ الفعل وفضّل سياسة النّعامة؟ إنّ الانسجام يفرض أن نوجّه أيضا أصابع النّقد لمن خطّط ونفّذ وأخفى وتواطأ.
هناك خطاب آخر مواز وشديد الخطورة يخفي احتقارا طبقيّا سمجا، وهو خطاب يشدّد على قدسيّة شخصيّة الباجي قائد السبسي رحمه الله. فعلاوة على سذاجة هذا الطّرح وسطحيّته، تكمن الخطورة في خلق كائن هلاميّ أو صنف أو جنس من البشر معَدّ طبقيّا (بحسب الانتماء والطّبقة والمظهر...) للحكم، نحن هنا إزاء محاولة قصف للوعي عبر تكوين صورة لطبقة حكام معدين للحكم منذ الولادة (Patriciens) مقابل من يسميهم الإعلام بالرعاع أو "من هب ودب" (Plébéiens) بالمفهوم الروماني. إنّ هذا الخطاب يضرب في العمق مبدأين أساسيّين في أيّ نظام يصف نفسه بالدّيمقراطيّ : مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات ومبدأ إرادة الشّعب وحرّيّته في اختيار من يمثّله.
الدّيمقراطيّة الصّفريّة (Une démocratie à somme nulle)
رجل المرحلة، حسب مواصفات البرجوازيّة والأرستقراطيّة الحزبيّة والبرلمانيّة (ولا أستثني المعارضة من المشهد)، هو رجل الحياد والتّوافق (اقرأ رجل استقرار الأمور والحفاظ على statu quo). إنّ رجل الدّولة في نظر هؤلاء هو من يُزَاوج بين المتناقضات من أجل الإبقاء على ديمقراطيّة شكليّة لا تجتمع فيها المتناقضات إلّا لتُحَيِّد التَّناقضات لصالح تقسيم السّلطة.
ويكفي أن تأخذ مُرشّح البرجوازيّة والوزير السّابق للدّفاع والرّجل الّذي مارس الحكم منذ عقدين مخترقا بذلك أنظمة حكم ما قبل الثّورة وما بعدها. إنّ سرّ هذه الدّيمومة هو غياب الموقف والهويّة السّياسيّة والأيديولوجيا. إنّ غياب الأيديولوجيا عند السّياسيّ هو المؤذن بالخراب السّياسيّ والفراغ البرامجيّ والتّصوّرات والرّؤى، لذلك تجد إعلام المال والأعمال يحاول تأثيث الفراغ بأوصاف الاتّزان والحكمة والوطنيّة (دون أن يحدّدوا المفهوم وفي خلط ركيك مع الشّوفينيّة)... أو هو (الإعلام) عندما تضيق به السّبل تجده يستثمر في صورة الوريث "الطّبيعيّ" الّذي أوصى به الكائن الهلاميّ قدّس اللّه سرّه... لتعيد نشر صورة وزير الدّفاع في اجتماعه الأخير مع الرّئيس الرّاحل أو أمام نعشه قبل الخروج من المستشفى العسكريّ... ويحاول أن يلبسه معنى أكثر من معناه وتفرضه حقيقة بل خيارا وفيّا لإرادة الزّعيم المفدّى...
إلّا أنّ هذا الاختيار جاء محكوما بتهاوي شعبيّة رئيس الحكومة والموظّف السّابق لدى السّفارة الأمريكيّة وبالتّالي تخلّي البرجوازيّة عنه.
إنّ الدّيمقراطيّة الصّفريّة ظاهرة شديدة الخطورة ظاهرها استقرار للحكم وباطنها ركود وجمود برامجيّ وفكريّ بعد انتفاء أسباب المنافسة والصّراع الفكريّ والبرامجيّ.
الشّوفينيّة
إذ حسب الخطاب السّائد، من المفروض على كلّ تونسيّ أن يكون فخورا بدولته الّتي وُفِّقت في اجتياز هذه المرحلة العصيبة، عليه أن يكون فخورا بنخبته (اقرأ برجوازيّته) الّتي لم تتناحر ولم تتقاتل كحال بعض الدّول الّتي غرقت في حروب أهليّة. وهكذا يكون على التّونسيّ أن يكتفي ببرجوازيّة عقلانيّة هي بمثابة عصارة ما اتُّفق على تسميته "الذّكاء التّونسيّ" مقابل القبليّة اللّيبيّة أو "العسكر" الجزائريّ أو الملكيّة الوراثيّة المغربيّة منها والخليجيّة... هكذا نكون استثناء بين الأمم.
إلّا أنّ الشّوفينيّة هي أقصر طريق نحو الانزواء والابتعاد عن طريق أنسنة الفكر والسّياسة، إنّها عندما توحّد ظرفيّا (كأس إفريقيا، جنازة رئيس، عمليّة إرهابيّة) ومناطقيّا (السّاحل - الدّاخل، المغرب-تونس والمشكلة مع الوداد البيضاوي) فإنّها سرعان ما تكون مولِّدة لأسوأ الأفكار الفاشستيّة والعنصريّة والّتي تحول دون التّقارب الّذي هو المصير الطّبيعيّ للعرب كشعب ذي لغة وروح ومصير واحد (وهو ما أظهره فوز الجزائر بالبطولة الإفريقيّة وفرح التّونسيّين والمغاربة على حدّ السّواء بذلك التّتويج).
الشّوفينيّة هي سلاح البرجوازيّة لتأليب العمّال المغاربة على الجزائريّين والتّونسيّين على اللّيبييّن والأفارقة تماما كما هو الحال الآن مع القوانين الفاشستيّة في لبنان ضدّ السّوريّين والفلسطينيّين.
رجل المحلة
ولأنّ البرجوازيّة، تلك الأقلّيّة المنظّمة والمُفَوَّهة، تدرك جيّدا حجم الرّهان وما يمكن أن تخسر مقابل الثّوريّين المتخاذلين والمنقسمين على أنفسهم، فإنّها كانت سبّاقة لتفرض مواصفات رجل المرحلة وفقا لمن تراه حصانها الرّابح الّذي سيتكفّل بمواصلة رعاية مصالحها.
هنا تدخل الصّورة والمشهديّة على الخطّ ومن ورائها غرف عمليّات تتقن فنّ التّلاعب بالمشاعر والجماهير. ولأنّ المشاعر، بما فيها الأكثر لا عقلانيّة، تتضخّم وتتعاظم داخل التّجمّعات (سيكولوجيا الحشود)، ولأنّ البثّ المباشر وقرب الصّورة وتطوّر وسائط التّواصل الاجتماعيّ دخلت على الخطّ لمزيد دفع هذه الظّاهرة، كان لزاما على البرجوازيّة أن تحوّل وجهة هذه الظّواهر والوسائل "الشّعبيّة" لصالحها.
هذه المشهديّة وقع توظيفها وتهيئة الظّروف لها قبل وبعد رحيل الرئيس. بداية عندما اجتمع رئيس الجمهوريّة الرّاحل بوزير الدّفاع في القصر الرّئاسيّ، ثمّ عند توثيق ما يشبه "توديع" الوزير لنعش الرّئيس داخل المستشفى العسكريّ في مسرحة لما يشبه "الوصيّة".
لم يغب على هؤلاء أيضا أنّ المؤسّسة العسكريّة، بحكم بعدها عن السّياسة والتّسييس، كانت ولازالت تحظى بثقة التّونسيّين، فكان أن استغلّوا نجاح المؤسّسة العسكريّة في تنظيم الجنازة لينسبوا ذلك إلى رصيد وزير الدّفاع. أو ليس هذا الوزير هو نفسه الّذي أساء لشرف المؤسّسة العسكريّة ذات 24 جوان 2012 عندما سمح بتسليم لاجئ سياسيّ إلى ليبيا دون علم قائده الأعلى للقوّات المسلّحة، ألا يعلم وهو وزير الدّفاع معنى "واجب ردّ الخبر" عند العسكريّين؟ كيف يمكن أن نثق في من تواطأ وأخفى تسليم لاجئ من داخل مطار عسكريّ تونسيّ على رئيسه؟ لماذا سكتت هذه البرجوازيّة المنافقة عن جريمة التّسليم تلك بينما كانت أشرس المهاجمين على المنصف المرزوقي، الرّئيس الضّعيف والعاجز الّذي خذل الثّورة والّذي لم يردّ الفعل وفضّل سياسة النّعامة؟ إنّ الانسجام يفرض أن نوجّه أيضا أصابع النّقد لمن خطّط ونفّذ وأخفى وتواطأ.
هناك خطاب آخر مواز وشديد الخطورة يخفي احتقارا طبقيّا سمجا، وهو خطاب يشدّد على قدسيّة شخصيّة الباجي قائد السبسي رحمه الله. فعلاوة على سذاجة هذا الطّرح وسطحيّته، تكمن الخطورة في خلق كائن هلاميّ أو صنف أو جنس من البشر معَدّ طبقيّا (بحسب الانتماء والطّبقة والمظهر...) للحكم، نحن هنا إزاء محاولة قصف للوعي عبر تكوين صورة لطبقة حكام معدين للحكم منذ الولادة (Patriciens) مقابل من يسميهم الإعلام بالرعاع أو "من هب ودب" (Plébéiens) بالمفهوم الروماني. إنّ هذا الخطاب يضرب في العمق مبدأين أساسيّين في أيّ نظام يصف نفسه بالدّيمقراطيّ : مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات ومبدأ إرادة الشّعب وحرّيّته في اختيار من يمثّله.
الدّيمقراطيّة الصّفريّة (Une démocratie à somme nulle)
رجل المرحلة، حسب مواصفات البرجوازيّة والأرستقراطيّة الحزبيّة والبرلمانيّة (ولا أستثني المعارضة من المشهد)، هو رجل الحياد والتّوافق (اقرأ رجل استقرار الأمور والحفاظ على statu quo). إنّ رجل الدّولة في نظر هؤلاء هو من يُزَاوج بين المتناقضات من أجل الإبقاء على ديمقراطيّة شكليّة لا تجتمع فيها المتناقضات إلّا لتُحَيِّد التَّناقضات لصالح تقسيم السّلطة.
ويكفي أن تأخذ مُرشّح البرجوازيّة والوزير السّابق للدّفاع والرّجل الّذي مارس الحكم منذ عقدين مخترقا بذلك أنظمة حكم ما قبل الثّورة وما بعدها. إنّ سرّ هذه الدّيمومة هو غياب الموقف والهويّة السّياسيّة والأيديولوجيا. إنّ غياب الأيديولوجيا عند السّياسيّ هو المؤذن بالخراب السّياسيّ والفراغ البرامجيّ والتّصوّرات والرّؤى، لذلك تجد إعلام المال والأعمال يحاول تأثيث الفراغ بأوصاف الاتّزان والحكمة والوطنيّة (دون أن يحدّدوا المفهوم وفي خلط ركيك مع الشّوفينيّة)... أو هو (الإعلام) عندما تضيق به السّبل تجده يستثمر في صورة الوريث "الطّبيعيّ" الّذي أوصى به الكائن الهلاميّ قدّس اللّه سرّه... لتعيد نشر صورة وزير الدّفاع في اجتماعه الأخير مع الرّئيس الرّاحل أو أمام نعشه قبل الخروج من المستشفى العسكريّ... ويحاول أن يلبسه معنى أكثر من معناه وتفرضه حقيقة بل خيارا وفيّا لإرادة الزّعيم المفدّى...
إلّا أنّ هذا الاختيار جاء محكوما بتهاوي شعبيّة رئيس الحكومة والموظّف السّابق لدى السّفارة الأمريكيّة وبالتّالي تخلّي البرجوازيّة عنه.
إنّ الدّيمقراطيّة الصّفريّة ظاهرة شديدة الخطورة ظاهرها استقرار للحكم وباطنها ركود وجمود برامجيّ وفكريّ بعد انتفاء أسباب المنافسة والصّراع الفكريّ والبرامجيّ.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire