تمرد المصريين، بدعة أم تعبير ديمقراطي؟
"وَأَوْفُواْ
بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ
تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ" النحل، آية 91
سرعان ما
تحول الوضع في مصر بعد أحداث 30 جوان 2013 إلى ما يمكن أن نعبر عنه ب"الحالة
المصرية" والتي هي في حقيقة الأمر تجسيد لما باتت عليه الأمة العربية من
انقسام وتشرذم حتى حول أمهات القضايا كمفهوم الديمقراطية وسيادة الشعب والشرعية
وغيرها من القيم التي بدأ الشعب العربي يتحسس، بعسر، طريقه إليها. كما كانت جل ردود الأفعال من هذا الطرف أو ذاك غارقة إلى حد بعيد في الحقد
الأيديولوجي والاصطفاف السياسي تسوق استنتاجات وقراءات مبتورة ومتسرعة بالنظر إلى
تسارع الأحداث وتعقيدها وتشعب الأطراف المتدخلة فيها.
أحاول في هذا المقال مراجعة عدد من
المقولات والأطروحات حول هذا "الانقلاب العسكري" الفريد الذي سيتدارسه
باحثو التاريخ والاجتماع السياسي و
الجيوسياسة، انقلاب ليس ككل الانقلابات وسابقة تاريخية تتطلب وقفة تمعن وتحليل
لاستيعاب الدروس والعبر. وسأتطرق إلى حركة تمرد، هذه الحركة الشبابية الشعبية التي
نجحت في حشد ما يفوق الثلاثين مليون مصري في مدن مصر وقراها وأريافها وتوحيد
أصواتهم حول مطلب أساسي واحد وهو رحيل مرسي وتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة، لنناقش
مدى شرعية هذا التحرك ومشروعيته.
حركة تمرد
من رحم الغليان الشعبي والغضب من
سياسات جماعة الإخوان المسلمين الحاكمة في مصر، ولدت حركة تمرد يوم 26 أفريل في
قلب ميدان التحرير كحركة سياسية معارضة وجدت أرضية سياسية ودعما من قوى سياسية
تاريخية فاعلة ومؤثرة في مصر ليس أقلها حركة كفاية (1) وحركة 06 أفريل (2) وجبهة
الإنقاذ (2) وعدد من النقابات القطاعية العريقة كنقابة المحامين المصرية (3).
وقد بدأت الحركة بجمع إمضاءات
المصريين في عريضة للمطالبة بسحب الثقة من الرئيس محمد مرسي والإعلان عن تنظيم
انتخابات رئاسية مبكرة. نجحت الحركة في جمع أكثر من مليوني إمضاء في غضون أسبوعين
مما أثار ضجة إعلامية كبرى أربكت حكم الإخوان ودفعت عددا من الأحزاب الإسلامية
الموالية لحكم الجماعة إلى تنظيم تحركات مضادة كحملة مؤيد وحملة تجرد (4)... وقد
رافقت هذه التحركات حملات تشويه وتكفير استهدفت قيادات حركة تمرد ليصل الأمر
بالداعية الإخواني محمد عبد المقصود إلى وصف المجموعة المتمردة بفسطاط الكفر (5)
بحضور الرئيس المصري محمد مرسي في ملعب القاهرة أياما قليلة قبل 30 جوان.
حملة التشويه هذه التي نظمتها
ونسقتها جماعة الإخوان المسلمين في مصر لم تقتصر على الداخل المصري بل تجاوزته
لتشمل الأذرع القُطرية
للتنظيم العالمي وتمتد إلى حركة النهضة في تونس تحت غطاء الشرعية واحترام
"الصندوق"، هذا التضامن كان متوقعا وقد يكون مقبولا لولا دعوات العنف
والخطاب الترهيبي لكل من يتجاسر على التشكيك في الشرعية (6) وما رافق ذلك من غياب لكل
نقد ذاتي أو محاولة لفهم أخطاء الجماعة وتفهم مطالب المتمردين.
شرعية التحرك؟
وللحديث عن مدى شرعية ومشروعية حركة تمرد،
شكلا ومضمونا، ليس أجدر من الاسترشاد بما يحدث في أعرق الديمقراطيات. وإذا أخذنا
الدول المتصدرة لترتيب الديمقراطيات في العالم (7)، نجد أنه تحت ضغط الشارع، دعا
الوزير الأول الإسلندي السابق، جاير هارد، إلى انتخابات برلمانية مبكرة في 09 ماي
2009 وذلك في أعقاب الأزمة الاقتصادية التي أثارت غضبا عارما من السياسات
الاقتصادية للحكومة سنتين فقط قبل انتهاء مدة حكومته. وفي فنلندا، سنة قبل الانتخابات
العادية، وبينما كان البلد يشهد انتعاشة اقتصادية بعد أزمة خانقة، طالبت بعض القوى
السياسية في ربيع 2010 إلى انتخابات مبكرة بسبب شبهات فضائح مالية شابت الانتخابات
البرلمانية وذلك حماية للمنظومة الديمقراطية الفنلندية (8). أما في ربيع 2011، فقد
تم سحب الثقة من ستيفان هاربر، الوزير الأول الكندي السابق، بتهمة تحقير البرلمان
والتعتيم على تمويل مشروع مقاومة الجريمة علاوة على صفقة شراء طائرات حربية
وإعفاءات جبائية لصالح بعض الشركات، لم يكفّر هاربر المعارضة التي أقالته بموافقة
52% فقط من النواب بل قاد حزب المحافظين إلى انتصاره الثالث خمسة أسابيع فقط بعد إقالته (9). أخيرا، في تركيا، وتزامنا
مع أزمة اقتصادية أربكت الحكومة وهزت الشارع التركي، دعا إسلاميو العدالة والتنمية،
بقيادة أردوغان، إلى انتخابات مبكرة في جويلية 2007 سمحت بامتصاص غضب الجماهير
وتثبيت حكم الإسلاميين في آخر المطاف.
أما من
الناحية الشرعية "الدينية"، وإذا رجعنا إلى تاريخنا العربي الإسلامي
العريق ومبادئ الديمقراطية السمحة التي جسدها رسولنا الأكرم قولا وفعلا بوحي من
الرحمان، فمن المهم التّفكّر في قوله تعالى في الآية 92 من سورة النحل : "وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ
غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً
بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ
اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ". وقد نزلت هذه الآية على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لما
أتت طائفة تبايع الرسول الأكرم وتدعوه إلى
نقض ميثاقه مع القوم الذي بايعه قبلهم بحجة أنهم أكثر نفرا وقوة فأبى رسول الله أن
يرتدّ على ما عاهد عليه القوم الأول أمام الله. إن لفي هذه الصورة أكثر من مغزى،
فالميثاق جزء لا يتجزأ ولا يجوز نقضه اعتدادا بقوة الحلفاء وعددهم وسلطانهم.
الرئيس مرسي عاهد المصريين أمام الله فأقسم أن يصون الدستور وأن يحفظ وحدة مصر
وسلامتها وأمنها قبل أن يعود على أعقابه منتصرا لعشيرته وجماعته على حساب
المصريين.
وهكذا يمكن
الجزم بأن الانتخابات المبكرة ليست ببدعة، بل إنها ممارسة تجد مبررات شرعية وأخرى
مترسخة في أعرق الديمقراطيات وتكمن جدواها في امتصاص غضب الجماهير عند الأزمات
واهتزاز الثقة في السلطة السياسية ليرجع الحسم عندئذ لسلطة الشعب صاحب السيادة
والكلمة الفصل ليثبّت سلطة الحاكم أو ينزع عنه الشرعية كما منحه إياها.
هذا من ناحية
الشرعية، أما من ناحية المشروعية، فقد أعطى محمد مرسي وجماعته العديد من المبررات للشارع
المصري عامة وخصومه السياسيين خاصة لعزله وإسقاط حكمه، ونفصل أهم هذه المبررات
فيما يلي.
المشروعية
السياسات
الاقتصادية الظالمة والتحالف مع قوى الفساد
كانت ثورة 25 جانفي
في مصر مثل نظيرتها في تونس ثورة الخبز والحرية والكرامة بامتياز والتي خرج فيها
الشعب بصوت واحد مناديا بالكرامة والعدالة الاجتماعية وتحقيق المواطنة الكاملة
الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وإسقاط نظام رأس المال المحتكر الذي كان يدور في
فلك السلطة ويتمعّش من عرق الكادحين والمعدمين متحصنا بالولاء لسلطة مبارك.
إلا أن جماعة
الإخوان المسلمين تنكرت أولا لقاعدتها التي تشكلت تاريخيا من الطبقات الوسطى
والفقيرة وثانيا لاستحقاقات الثورة ومطالب الشعب الذي دفع من أجلها الدماء
والأرواح لتتحالف مع نفس قوى المال والفساد وذلك بشهادة القاصي والداني، ولعل
شهادة ابراهيم الهضيبي (10 - ص3)، ابن إحدى الأسر الإخوانية المصرية المعروفة وأحد
أهم الفاعلين السابقين في الإعلام الدعائي لصالح الإخوان، بخصوص تحالف الإخوان
الحديث مع رجال الأعمال وخاصة الفاسدين منهم والذين كانوا في زمن غير بعيد من زمرة
مبارك وذويه، خير شاهد على سقوط الإخوان أخلاقيا وسياسيا بعد تورطهم مع رموز
الفساد المالي والسياسي. ولعل تحالف حركة النهضة مع أفسد رجال الأعمال التونسيين
من فصيل توفيق الجراية وناجي المهيري والعربي نصرة وغيرهم كثيرون... خير دليل على
أن سياسة التحالف مع المال الفاسد هي من أهم القواسم المشتركة بين إخوان مصر
وتونس.
أما على مستوى
الخيارات الاقتصادية، فإن سياسات الإخوان لا تعدو أن تكون مجرد استمرار للخيارات
النيوليبرالية التي توخاها الحزب الوطني الديمقراطي والتي عنوانها تفويض الشأن
الاقتصادي للمؤسسات المالية الدولية وارتهان القرار الوطني للقوى العظمى التي تقف
وراءها على حساب الطبقات الكادحة. وقد تجلى ذلك في التعاطي مع مشروع قرض صندوق
النقد الدولي والذي دافعت عنه الجماعة بكل قوة. ورغم اشتراط
المعارضة
أن لا يحمِّل
النظام أعباء القرض للفقراء والطبقة الكادحة وأن لا يملي الصندوق طريقة التصرف في
الأموال المقترضة وخيارات استثمارها، فقد تقدمت الجماعة أشواطا في المفاوضات مع
مسؤولي الصندوق مع تأجيل الإعلان عن النتائج وخاصة الاستتباعات (الزيادة في أسعار
المواد الأساسية ومراجعة سياسة الدعم نحو التقليص...) إلى ما بعد الانتخابات التشريعية، وهو ما ينم
عن عقلية مراوغة ومواربة ليس أخطر منها إلا ممارسات الترويكا التونسية بتمرير
مشروع الإصلاح الهيكلي والزيادة في سعر المحروقات والقرض الائتماني لصندوق الدمار
في غمرة الأزمات المفتعلة كالاعتداء على الاتحاد أو مقتل الشهيد شكري بلعيد أو
استقالة حكومة لتعويضها بنسخة أسوأ...
ولكن الأخطر من ذلك
هو أنه رغم التدهور الغير مسبوق في القدرة الشرائية للمواطنين وتفاقم البطالة في
البلدين، تسعى الحكومتان إلى استيراد كميات قياسية من الغاز المسيل للدموع والرش
وأحدث أدوات القمع بدل الالتفات إلى الجهات المهمشة والأحياء المفقرة والمعدمة
وطرح بدائل اقتصادية واجتماعية حقيقية، بل إنهم عاجزون حتى عن تقديم تصور واضح لما
يعتزمون فعله لمواجهة آفة البطالة.
الدم المصري خط
أحمر والعنف عنوان المرحلة
فالرئيس الذي أقسم
على القرآن الكريم متعهدا بحماية مصر والمصريين تستر على قتل أكثر من سبعين مصريا من
المتظاهرين منهم من سحل عاريا أمام قصره بالاتحادية وغيرهم سحلوا كالمواطن المصري
حمادة أو عذبوا حتى الموت كمحمد الجندي أو قتلوا غدرا كجابر صلاح وغيره كثيرون
قتلوا في تحركات اجتماعية في بورسعيد وأبو النمرس ومناطق أخرى من شباب ثورة 25 جانفي الذين كان لهم
الفضل في إخراج مرسي وجماعته من غياهب السجون إلى قمة السلطة والوجاهة الاجتماعية
والسياسية. هذا دون الحديث عن الاعتداء على المعارضين والصحفيين من قبل بلطجية
الجماعة أمام الاتحادية وتفشي الإرهاب المسلح في إقليم سيناء تحت صمت الجماعة
واستهتارها إن لم نقل تواطؤها.
ومن المضحكات المبكيات أن كل ما كتبته ينطبق على الحالة
التونسية مع تغيير في الأسماء، لتعويض بورسعيد أو وأبو النمرس بسيدي بوزيد أو العمران أو الحنشة أو سليانة أو قلالة وسيناء
بالشعانبي والبلطجية بما يسمى رابطات حماية الثورة وموقعة الجمل بأحداث القنص وقتل
المتظاهرين التي خرج منها القتلة والمسؤولون بأخف الأضرار ودون القصاص العادل
للشهداء وخاصة والأهم كشف الحقيقة حول من دبر ومن أمر ومن نفذ. ولعل خاصية الحالة
التونسية هو تطور العنف الذي وصل إلى الاغتيال السياسي وقتل الشهيد المعارض
السياسي شكري بلعيد الذي مضى خمسة أشهر دون كشف اللثام عن القتلة والمدبرين
لاغتياله الآثم.
إلا أن الأمر الأخطر في تقديري هو تبرئة متهمي موقعة الجمل وهضم
حق الشهداء وغياب أي إرادة للقصاص العادل والشافي وسط رفض جماعة الإخوان المسلمين،
التي سيطرت على السلطة التشريعية، إصدار قانون للعدالة انتقالية يتجاوز هنات
القوانين التي يعمل بها قضاء مبارك وعجزه عن إنصاف الشهداء. الأدهى من ذلك
هو أن برلمان
الأكثرية الإخوانية نقح الفصل الثامن من مجلة الأحكام العسكرية الذي يقضي
بتخصص القضاء العسكري دون غيره في هذا النوع من المحاكمات في تواطؤ مع المجلس
العسكري، كما أن الإعلان الدستوري الذي أتى به مرسي في نوفمبر 2012 والقائل بإعادة
المحاكمات في قضايا قتل المتظاهرين فيه نفاق وتمسح على الثورة بما أن ذلك لن يشمل،
حسب الإعلان، أولئك الذين تحملوا مسؤوليات سياسية أو تنفيذية زمن حكم المجلس
العسكري، كما أن قضايا قتل ثوار في أحداث محمد محمود (قتل متظاهرين في نوفمبر 2011
والاعتداء على جرحى الثورة وتصفية ثوار جسديا من قبل الشرطة والجيش) وقتل جابر
صلاح (جيكا) في الذكرى الأولى لأحداث محمد محمود في نوفمبر 2012 ستكون فوق كل
محاسبة بموجب هذا الإعلان الجائر.
سياسة التقسيم بالتكفير والمكابرة والاعتداد بالعشيرة والجماعة
على حساب الشعب
من أخطاء مرسي القاتلة أيضاً استهانته بالأصوات التي لم تذهب
لصالحه في الانتخابات واعتداده بعشيرته وجماعته ما حال دون توحيد المصريين وراءه
كرئيس لكل المصريين. ومن الطريف مقارنة صورة "الداعية السلفي" بشير بن
حسين جنبا إلى جنب مع وزراء الترويكا التونسية في مظاهرة نصرة الشرعية في فيفري
2013 عندما زعم مساندة النهضة نصرةً "للشرعية والإسلام" بصورة الداعية
الإخواني محمد عبد المقصود من ستاد القاهرة بحضور الرئيس مرسي وهو يصف المعارضة
وكل من يقف وراء حركة تمرد ب"فسطاط الكفر" داعيا الله أن يجعل
"كيدهم في نحورهم" وفي كلتا الصورتين خلط خطير بين الإخوان
والإسلام وزعم
زائف بتمثيل الدين والتّديّن ونصرة الإسلام. محاولات التقسيم هذه باءت كلها بالفشل
لتزيد الجماعة في عزلتها ويتركز الصراع خاصة حول المسائل الهامة والأهم كالسياسات
الاقتصادية والاجتماعية على حساب المسائل الهوياتية كمكانة الشريعة في الدستور،
ولعل الفضل يعود في ذلك إلى الحسم الذي استقر لدى النخبة السياسية بما فيها
السلفية وحتىالقبطية، منذ زمن حول الشريعة التي كانت وما تزال المصدر الأساسي
للتشريع في مصر، الدولة التي تقر تعدد الزوجات ولا يستفتى فيها الشعب إلا بعد
موافقة الأزهر. وفي الحقيقة، سعى الإخوان بكل قوة إلى محاولة تأجيج الصراع
الهوياتي وتقسيم المجتمع على أساس عقدي وهمي من أجل التغطية على الفقر البرامِجي
الذي يعانون منه من جهة ورص الصفوف وإعادة ترتيب البيت الداخلي لما شهدته الجماعة
من انقسامات وانشقاقات (10 - ص9).
الاستئثار بالسلطة والحوار من أجل الحوار
من أغبى قرارات مرسي إقالته للنائب العام عبد المجيد محمود، رجل
نظام مبارك، لتعويضه بالمستشار طلعت ابراهيم، رجل الجماعة، وقد تلى ذلك الإعلان
الدستوري الاستبدادي الذي حصن مرسي بموجبه، وبأثر رجعي، كل قراراته من كل طعن إلى
جانب تحصين مجلس الشورى والهيئة التأسيسية من كل رقابة. وهو بذلك ألغى القضاء
العدلي والإداري والمحكمة الدستورية واستأثر بكل السلطات خاصة بعد حل مجلس الشعب.
وقد حاولت الجماعة التسويق لهذه القرارات على أنها ثوروية وتستجيب لمطالب الجماهير
في مغالطة واضحة للرأي العام وتشويه لروح الثورة وأهدافها، ففي كل من مصر وتونس،
لفظ الشعب النظام القديم المستبد الذي ركز كل السلطات في أيدي الرئيس وأخضع كل
المؤسسات لأجندة الحزب الحاكم ولن يقبل عودة الانفراد بالحكم تحت مسميات أخرى.
كما يمكن الجزم بأن الحوار من أجل الحوار والعمل بمقولة "قولوا ما
شئتم فإننا فاعلون ما نشاء" كان عنوان حكم الإخوان في كل من مصر وتونس، فإذا
كان مرسي يبني سياساته
وقراراته ويستلهمها من إملاءات المقطم بعيدا عن أصوات الثوار والمتظاهرين في
الميادين والمواطنين الكادحين ودون الأخذ الجدي لآراء المعارضة ونصحها، فإن حركة
النهضة تبنت نفس المنهج مع فارق بسيط في الأسلوب والشكل لإيهام الرأي العام بوجود
ما يسمى "حوارا وطنيا" يدعى إليه لفك الخناق والعزلة على الترويكا عند
الأزمات، لكن التوافقات والوعود "المعلنة" سرعان ما تتبخر لينقلب عليها
شق بعينه داخل الحركة سواء في كتابة الدستور أو التحقيق الجدي في قضايا هامة
كالاعتداء على الاتحاد أو اغتيال الشهيد شكري بلعيد... وهي كلها قضايا دخلت طي
النسيان.
الإدارة الكارثية لملف الأمن القومي
على خطى الرئيس
التونسي المؤقت، كانت إدارة مرسي لشؤون الأمن القومي عامة والشؤون الخارجية خاصة
كارثية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وقد تجلى ذلك في التعاطي مع مختلف الأزمات
ذات الصلة وليس أقلها أزمة مياه النيل وتهديد أثيوبيا ببناء سد النهضة بتحريض
إسرائيلي إلى الأمن في سيناء إلى التعاطي مع الأزمة السورية وقطع العلاقات مع
سوريا، ولكن الخطأ القاتل والذي سرع برحيل مرسي يبقى التحدي والصلف الذي تعامل به
مع المؤسسة العسكرية.
فبخصوص مياه النيل
مثلا، من المهم تمثل الأهمية التي يمثلها هذا النهر الأسطوري في حياة المصريين وثقافتهم ووجدانهم ، إذ يُروَى أن
النيل هو في الأساطير الفرعونية إله يدعى حعبى كان يرعى مصر ويجلب إلى أهلها
السعادة والحياة عبر توفير الغذاء والطعام والمئونة. ولكن النيل أيضا ارتبط بأوكد
التحديات الوطنية في تاريخ مصر وأهم إنجازاتها ألا وهو السد العالي الذي أسهم في
التخفيف من آثار فيضان النهر وخاصة إنتاج الكهرباء وتنمية الزراعة، وقد حرصت مصر
جمال عبد الناصر خاصة على دعم نفوذ مصر ومكانتها بين دول حوض النيل خاصة عبر
اعتماد سياسة القوة الناعمة المدعومة بانتشار الشركات المصرية الكبرى وبعثات كل من
الأزهر والكنيسة المصرية أيضا خاصة في أثيوبيا من أجل حماية نصيب مصر من مياه
النيل. ويمكن القول أن تهديد سد النهضة يمثل التهديد الأول للأمن القومي المصري إذ
سيُنزِل نصيب مصر من المياه إلى الربع وكذلك الشأن بالنسبة للكهرباء المولدة علاوة
على تبوير حوالي 840.000 هكتار من الأراضي الزراعية مما سيحكم بالفقر والتشريد على
الملايين من المصريين (11). وفي الحقيقة لم تكن أثيوبيا لتتجرأ على إعلان هذا
المشروع لولا هوان صورة مصر في الخارج بسبب ضعف وتعاسة الرئاسة المصرية تحت حكم
محمد مرسي وجماعته التي قللت من أهمية التهديد وجديته وتعاطت معه بشكل يبعث على
السخرية من مؤسسة الرئاسة التي استدعت اجتماعات علنية موجهة للاستهلاك الداخلي.
أما بالنسبة لسيناء، فالأمر جلل، فبعد تحصين مرسي لقرار لسلطته وقراراته عبر الإعلان
الدستوري الاستبدادي في منتصف نوفمبر، تقترح جماعته مشروع إقامة دويلة داخل الدولة
على أراضي سيناء لا ترتبط بالدولة المصرية وتشريعاتها وحكومتها وسلطها (12). وينص
المشروع على إحداث هيئة يسيرها مجلس إدارة يعين أعضاءها رئيس الجمهورية ولهم
صلاحيات الوزراء ولا يخضعون لرقابة المجلس التشريعي، كما ينص المشروع تحديد حدود
هذا الإقليم هو من صلاحيات رئيس الجمهورية، ويشير غياب معايير دقيقة في تحديد رقعة
هذه الدويلة إلى أن للرئيس اقتطاع ما شاء من الأراضي المصرية لضمها إلى هذه الشركة
الخاصة (12). وعلاوة على تخوفات المصريين شعبا ونخبة سياسية وخاصة المؤسسة
العسكرية من هذا المشروع الذي سيخرج جزءا استراتيجيا من الأراضي السيادية المصرية
من سلطة الدولة وسيادتها ليضعه تحت السلطة المطلقة للرئيس ذي الصلاحيات المحصنة،
فإن جل التحاليل تذهب إلى وجود نية لدى الجماعة، بدفع من الأمريكان وبتواطؤ
الصهاينة تحت ما يسمى مشروع الشرق الأوسط الجديد وبالذات ما يسمى بالنسبة لسيناء
مشروع حقل الأشواك (13)، لإنشاء دويلة تستقبل فلسطينيي غزة وتدخل في التصور الأكبر
والقاضي بحسم القضية على حساب الأراضي العربية في فلسطين التي تسطو عليها إسرائيل
بعد تهجير الفلسطينيين.
وهكذا بدا أن مشروع
مرسي وجماعته لم يكن أبدا منتصرا للقضية الفلسطينية وخير دليل على ذلك مفارقة غلق
معبر رفح في زمن حكم الإخوان بعد فتحه زمن حكم المجلس العسكري والسكوت على خرق
إسرائيل للمجال الجوي المصري لضرب مصنع الذخيرة في الخرطوم التي تدعم المقاومة في فلسطين ومواصلة مد الكيان الصهيوني بالغاز
المصري بأسعار تفاضلية كما كان الشأن زمن مبارك. ولعل حذف عبارة الصهيونية من
مشروع الدستور في تونس ورفض حركة النهضة تجريم التطبيع مع العدو الصهيوني خير دليل
على تورط الإخوان المسلمين في مخططات الصهاينة.
أخيرا وليس آخرا،
بعد أن كانت تونس السباقة
في طرد السفير السوري بشكل أحادي من قبل الرئيس المؤقت واحتضان أول اجتماع لأعداء
سوريا وإعطاء غطاء دولي للتدخل في سوريا وتخريبها، كان 13 جوان 2013 الدور لمصر في
احتضان هذا النوع من الاجتماعات والذي نادى فيه مرسي إلى الجهاد في سوريا ضد
النظام السوري قبل أن يقرر بعد أيام قليلة من الاجتماع وبشكل أحادي قطع العلاقات
مع سوريا، الأمر الذي أثار حفيظة الجيش. ولعل ما جاء على لسان الفريق السيسي في
البيان الثالث، أي بيان عزل مرسي، خير دليل على أن المؤسسة العسكرية قدمت مرارا
وتكرارا تصورات واستراتيجيات للخروج من عدد من الأزمات والتحديات التي تواجهها مصر
دون أن تلقى تجاوبا يذكر من قبل الرئيس مرسي وجماعته.
هذه محاولة
لقراءة الواقع المصري وحقيقة التمرد الذي قاده الشباب في 30 جوان في مصر في ميدان
التحرير، ذلك الميدان الأسطوري الذي أطاح بحكم مبارك قبل أن يطيح بحكم جماعة
الإخوان المسلمين. وإذا كان الرأي العام منقسما حول توصيف هذه الإطاحة بالانقلاب
العسكري أو بالثورة "التصحيحية"، وهو موضوع مهم سأفرده بمقال خاص، فإن ما
يمكن تأكيده هو أن تضاريس الواقع المصري المركب داخليا وخارجيا وسياسيا وجغرافيا
وأمنيا وتاريخيا ومؤسساتيا، كان أكبر من الإخوان وقدرتهم على حكم دولة بحجم مصر
وثورتها.
أيوب المسعودي
المصادر
(7)
The economist, http://goo.gl/FYz9q
(10)
Hivos, http://goo.gl/ZdKSu
(13)
http://goo.gl/wyp6j
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire