Designed by Freepik

mardi 22 octobre 2013

أزمة الثورة في تونس : بين الماضي والحاضر - 2

عامان على 23 أكتوبر

أزمة عقيدة التأسيس وغياب البناء الكلي





أحاول، بكثير من التواضع، في هذه السلسلة من المقالات التي بدأتها بمقال أول بعنوان "أزمة الثورة في تونس : بين الماضي والحاضر - 1" (أنظر الرابط)، أن أخرج من سياق التفكير الملألوف إلى سياق أرحب،  أن أشارك من موقعي المتواضع في بناء عقل مؤسِّس لا يلغي العقل المؤسَّس (1) ولكن يحاول بقدر المستطاع التحرر من أوثاقه وموروثه. وهي مهمة تزداد صعوبة مع اشتداد أزمة الحكم في تونس وانسداد الأفق السياسي مما أدى حتما إلى طغيان الآني على الاستشرافي والترقيعي على التأسيسي.


هكذا مر عامان على استقرار منظومة السلطة الجديدة، منظومة 23 أكتوبر، وبالرغم مما شهدته الساحة السياسية من تموجات وهزات وارتدادات، فقد ظل الواقع الاقتصادي والاجتماعي يراوح بين الجمود والتقهقر يحكمه تغول جماعة على حساب أخرى ورأسمالية المحاسيب والزبونية البغيظة وسياسات التبعية والإذلال في استمرار وتواصل مع سياسات نظام السابع من نوفمبر الذي كان التلميذ النجيب في نظر المنظمات المالية الدولية وما تبعها من وكالات تصنيف وتزويق... هذا واقع مرحلة كان يفترض أن تكون تأسيسية وأن تحدث قطيعة أخلاقية، سياسية ومجتمعية مع السائد قبل 17 ديسمبر، إلا أن السلطة الجديدة اختارت على عكس المنتظر الارتداد إلى الوراء رافضة القطيعة مع القديم والتأسيس للجديد فارتدت وانزوت وانعزلت.


أما المجلس التأسيسي فقد تحول إلى مجرد أداة تزكية في يد الأغلبية يشرع لها ويراقبها في آن، هذا علاوة على وهن الأداء وتدني مستوى الخطاب السياسي والعجز عن التعبير، بالوضوح الكافي،على تطلعات الجماهير والشباب الثائر بصفة خاصة. كل ذلك حول جلسات التأسيسي وحواراته إلى مشهد هو أقرب إلى صراع ديكة ومشهد مستفز للذكاء والحياء الشعبيين تطغى عليه المزايدات الكلامية التي لا ترتقي إلى الفعل السياسي المؤسس...

لسنا هنا بصدد تجريح نواب الشعب المنتخبين أو تقزيمهم، إلا أن دقة المرحلة وجسامة التحديات المطروحة وطنيا وإقليميا تستوجب وقفة فكرية نقدية تتجاوز العاطفي والمرحلي على حد السواء. وفي الحقيقة يعود هذا الانحراف إلى أزمة عميقة في التأسيس، أزمة ضاربة في عمق التاريخ وتطور أو بناء العقل العربي الإسلامي كما شخصه الفيلسوف الألمعي محمد عابر الجابري في سلسلة كتاباته النقدية عن العقل العربي...


نعم، لقد تميزالعقل العربي منذ "ترسيمه" في بداية الخلافة العباسية ومنذ عصر التدوين، في عهد الخليفة المنصور، بطغيان اللّغويّ الكلاميّ الشِّعري على المعنى والمنطق. وهو ما يشير إليه الجاحظ وكذلك الشهرستاني مثلا في كتاباتهم عندما يقارنون بين العقل العجمي (الفارسي واليوناني) والعربي واصفين الأول بأنه يتميز بالاجتهاد والاكتساب مقابل الحدس والارتجال عند الثاني. وليس غريبا أن يتزامن عصر التدوين هذا مع أول الإبداعات العلمية وربما أخطرها في التاريخ المعرفي العربي، إنه علم اللغة والنحو الذي وضع أسسه الخليل الفراهيدي ثم تلميذه سيبويه (وهو عمل جبار وذو قيمة وصلابة علمية مشهودة)... لا تكمن الخطورة في تقعيد اللغة، فقد استجاب هذا العمل إلى ضرورة تاريخية وإرادة سياسية في تعريب الإدارة والقطع مع هيمنة الفرس والرومان عليها، وإنما تكمن في الخلط بين المنطق واللغة. وسيحل النحو بالنسبة للعقل العربي محل المنطق بالنسبة للفلسفة الإغريقية. هكذا بنى الإمام الشافعي، في كتابه "الرسالة"، أصول الفقه وقنن عمل العقل وشرّع له متوخيا علوم اللغة والنحو مرجعا لاستنباط الأحكام من قوانين اللغة وآليات إفصاحها وتعبيرها عن المعاني... من الناحية السياسية كذلك، كان التدوين في مطلع الخلافة العباسية أكبر عملية لجمع العلوم وتبوبها وتصنيفها تحت إدارة الدولة مع ما شاب هذا المشروع من انتقاء وتوجيه لإضفاء الشرعية على الخلافة الوليدة بعد القضاء على الأمويين مع ما سيستتبعه ذلك من طمس للمنتوج العلمي والمعرفي والثقافي الأموي...  لقد كان ذلك عملية "ترسيم" للعقل العربي وتقنينا للرأي وتشريعا للإنتاج الفكري والمعرفي العربي. لا أريد أن أطيل في إعادة تفسير ما برع الجابري في بيانه والتدليل عليه في كتابه "تكوين العقل العربي" (2)، ولننصرف إلى محاولة قراءة تداعيات هذه الحقيقة التاريخية على واقعنا السياسي والاجتماعي الراهن.


أما على مستوى الخطاب السياسي الرسمي (سلطة ومعارضة)، فلا يختلف اثنان في كلل التونسيين ومللهم من المناكفات السياسوية التي تأخذ شكل مزايدات شعاراتية وطابعا كلاميا يفيض فيها اللفظ على المعنى والمنطق، وكأن فائض اللفظ على المعنى في العربية وجد امتدادا له عبر التاريخ فلم نخرج من لسان العرب لابن منظور وعروض الفراهيدي وإيقاع العربية ونغمتها "مما يجعل الأذن والحس والعاطفة تنوب عن العقل والمنطق في الرفض والقبول" (2).

وأما على مستوى "ترسيم الثورة" وتأميمها وخوصصتها وتحزيبها، فإذا أخذنا منظومة 23 أكتوبر وطبيعة تعاطيها مع الماضي القريب منه والقديم (التاريخ العربي والإسلامي وتاريخ تونس الوطني الحديث...)، وجدنا نزوعا مرضيا لإعادة إحياء معارك الماضي وتأجيجها، وهو ما عبر عنه الجابري ب"التنافس على الماضي" من أجل الهيمنة على الحاضر والاستحواذ عليه، وهو ما نراه بوضوح في محاولة فريق إحياء مسائل هوياتية مصطنعة والطعن في الموروث البورقيبي وما قامت عليه الدولة الوطنية الحديثة من مكاسب من أجل هدم الحاضر وإعادة بناءه على أساس رؤية فئوية للماضي. نحن لسنا هنا بصدد تمجيد الموروث البورقيبي، فلنا عليه مآخذات عديدة منها مسؤولية التصحر السياسي الذي أدى إلى أكثر من نصف قرن من حكم الحزب الواحد، بل إننا نذهب إلى أبعد من ذلك بالقول أن النظام البورقيبي نفسه قام ب"ترسيم الحركة الوطنية" وإعادة كتابتها على مقاس حكمه وأيديولوجيته بإقضاء كل المخالفين باغتيالهم أوقبر تاريخهم ونضالاتهم... نحن هنا أمام ظاهرة "عربية" لم تستثن أحدا قوامها التنافس على الماضي من أجل إعادة كتابة الحاضر والاستحواذ عليه وإعادة بناءه وفق مصلحة الجماعة أو الحزب أو الأيديولوجيا.
إعادة البناء هذه ترافقها اليوم عملية هدم لمؤسسات الدولة وقيم المجتمع التونسي المعتدل المتلاحم المتجانس قصد تشطيره وإضعاف وحدته قبل إحكام القبضة عليه باسم العودة للأصول والهوية وعبر إذكاء صراعات الماضي وتحويل وجهة الثورة من صراع طبقي على الوجود والتوزيع العادل للثورة والكرامة إلى خلاف فقهي وصراع هويات وهمية.

البناء الكلي بدل البناء الكلياني

إن السؤال الجوهري الذي نطرحه هنا هو متى بناء العقل العربي تاريخي الوعي كوني المنبع؟ ذلك العقل الذي يتنافس على المستقبل انطلاقا من الحاضر وما راكمته حضارتنا العربية الإسلامية العظيمة وسائر الحضارات التي استفادت من أعمال الفارابي وابن سيناء وابن رشد، أليس ابن رشد هو الذي سهل على أوروبا الحديثة فهم أرسطو منذ توماس الأكويني مما قادها إلى إحداث قطيعة معرفية وفلسفية وعلمية؟

سأسوق مثالين في التعاطي العاطفي المتشنج للعقل العربي مع إحدى أخطر القضايا الراهنة لأبين فشل هذا النوع من التعاطي وقصوره في تأدية المهمات المنوطة به.

فعلى صعيد مسألة التعريب، وإن كنت أعتبر نفسي من المتعصبين للغة العربية، فإنني أعتبر أن مسألة التعريب لم تطرح بالطريقة السليمة والعلمية والعقلانية التي تفضي بالفعل إلى انتشال اللغة الشريفة من حالة الهوان والفقر والانحطاط التي تتخبط فيها. إن تخلف اللغة العربية عن ركب الاكتشتفات العلمية والثورة الابستيمولوجية التي عرفها الغرب منذ عصر النهضة الأوروبية وانزواءها وانحصار الأخذ بها في مجال علوم الفقه (ومن ذلك قول الجابري أن الحضارة العربية هي حضارة فقه بامتياز(2))، كل ذلك أدى إلى تحولها إلى لغة جامدة لا تاريخية لم تتطورمنذ لسان العرب لابن منظور (القرن السابع هجري). إن تعريب الإدارة والتعليم، فرنسيّي النشأة، لا يكفي لإحياء اللغة العربية وإعادة بعثها كلغة "للعصر" ما لم تتحول إلى لغة لإنتاج المعرفة والتكنولوجيا والصناعة والمعرفة والثقافة والفن. وإذا نظرنا إلى هيمنة الغرب على صعيد المعرفة وصناعة المعرفة والكم الهائل من الحواجز الاقتصادية والقانونية وخاصة السياسية التي تحول دون ولوج العرب إلى عالم صناعة المعرفة (منظومة حماية الاختراعات وما يتكلفه ذلك من تمويل وموارد...) ومحاصرة تجارب التصنيع والتسلح الوطنية... سنجد أنفسنا أمام استنتاج واحد وهو ضرورة العمل على مستويين: مستوى أول يدعم اللغة العربية كلغة وطنية للإدارة وكذلك وخاصة العمل على إقليمي ودولي ودبلوماسي (كمكمل ضروري) من أجل مجابهة الحواجز المعرفية التي تحدثنا عنها سابقا على مستوى دولي وفي شكل جبهات دلبوماسية إقليمية، ومستوى ثان لدفع تعلم لغات المعرفة المعاصرة والتمكن منها ودعم البحث العلمي للحاق بركب الأمم بعد طول تأخر. إن الترجمة والتعريب لن يجديا نفعا قبل أن نتحول إلى قوى منتجة للفكر والمعرفة، وإن كان ذلك بلغة أجنبية، فيسهل بعد ذلك كسر الجمود الذي يعاني منه لسان العرب منذ قرابة السبعة قرون.

أما على صعيد السياسة الخارجية واستراتيجية العرب (إن وجدت) في مواجهة التحديات الإقليمية والقومية، فمن الوجاهة استحضار ما كتبه الشهرستاني في " العقلانية الفارسية الإيرانية مقابل القبلية والحدس العربي"،... وإن كنت أمقت فكرة العداوة الوهمية بين إيران 'الفارسية الشيعية" والعرب "السنة"، فإنه من الجدير، من الناحية التحليلية البحتة، دراسة ردود فعل الحكومات العربية بعد بوادر التقارب الأمريكي الإيراني حول الملف السوري... لم يجن العرب شيئا من سياسة الولاء الأعمى للأمريكان وهم يرون اليوم أن التقارب الإيراني الأمريكي يسقط في الماء كل طموحاتهم لضرب إيران، القوة العظمى الصاعدة، عن طريق أمريكا... ذلك لأن العرب (الحكام العرب) لطالما تفاوضوا مع الأمريكان فرادى ولم يؤسسوا أبدا لدور استراتيجي موحد، بل يمكن القول أنهم كانوا دوما يتآمرون مع الأمريكان ضد بعضهم البعض في سباق لاسترضاء سيد البيت الأبيض الذي كان، من جهته، حريصا على بث الفوضى والفتنة في جسد الأمة العربية قصد دفعها إلى سباق التسلح ضد الشعوب المقهورة، وضد بعضهم البعض وضد العدو الإيراني الوهمي لغاية إحكام القبضة على مواردنا وثرواتنا لنزيد تخلفا وفقرا وانقساما.


إن السبيل الوحيد للقطع مع هذا السائد البغيض القبيح هو استيعاب الماضي برمته  في ما يسمى بالعقل العربي الكلي كنقيض للكليانية. فإذا كانت الكليانية تقصي كل ما يتعارض وسلطة الحاكم المشرِّع، فإن العقل الكلي الكوني يشرِّع لوجود الكل داخل منظومة قوامها العقلانية والاستصلاح والاستحسان والاجتهاد من أجل بناء المستقبل، ووحده تشبيب الطبقة السياسية وتجديد فكرها ووعيها قادر على كسر هذا السائد والخروج بالواقع الضيق إلى مستقبل أرحب. ولن يتم هذا إلا باقتلاع النظام القائم الذي لا يثير الماضي إلا من أجل إعادة كتابته على هواه وترسيم نظريته في الماضي حاضرا ليظل العقل العربي سجين الماضي والشعب التونسي أسير الخلافات المذهبية ومعارك الجامعات وأحقاد الأحزاب وضغائن "الشخصيات الوطنية"؟ في الأثناء يواجه شباب الثورة اليأس والإحباط وذل البطالة ويلقى به في غياهب السجون أو في محارق الماضي كوقود حرب في معارك لا ناقة له ولا جمل فيها.

فليسقط النظام ولتحيى تونس.


أيوب المسعودي
22 أكتوبر 2013


المراجع

(1) - A. Lalande, "La raison et la Norme", pp 16 - 17, 1963
(2) - محمد عابد الجابري، "نقد العقل العربي"



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire